Saturday, June 4, 2016


الروح الـقـدس






تـــألـيف

      دكتور / جميـــل زكـي فلتاؤوس







مـــراجـعـــة

الأب الورع القمص/ مرقس خله

راعي كنيسة الشهيد العظيم مار جرجس







سيدني ـ استراليا


شكـــر وتـقـديـــر



    انني أشكر الله أبو ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح علي كل عطاياه وهباته الجزيلة التي أنعم علي البشرية بها منذ بدء الخليقة حتي يومنا هذا وإلي آخر الأيام . فالله منذ بدء الخليقة كان ’يظهر نفسه للإنسان بطرق ووسائل مختلفة، فقد سمع أبونا آدم في الجنة صوت الرب الإله كما هو مكتوب " فنادي الرب الإله آدم وقال له أين أنت " (تك9:3) ، كما كلم قايين (تك9:4) . كما كان يعلن الله نفسه عن طريق الطبيعة كقول المرنم بالمزمور " السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه . يوم إلي يوم يذيع كلاما وليل إلي ليل يبدي علما . لا قول ولا كلام . لا يسمع صوتهم . في كل الأرض خرج منطقهم وإلي أقصي المسكونة كلماتهم ." (مز1:19-4) . إن جمال الطبيعة ورونقها وكل ما يحيط بنا يحدث بمجد الله كقول رب المجد يسوع للتلاميذ " تأملوا الزنابق كيف تنمو . لا تتعب ولا تغزل . ولكن أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها " (لو27:12) . أيضا لو تأملنا النظام الفلكي ودقة حركة الشمس والقمر والنجوم ، وتعاقب النهار والليل ، كذلك الفصول الأربعة ، كلها تحدث بقدرة هذا الخالق العظيم . كذلك لو تأملنا في جسم الإنسان الذي خلقه الله ، فإننا نجد أن كل هذه الأعضاء التي تعمل في توافق وإنسجام تام دليل واضح وقوي علي وجود الله وقدرته العظيمة ، مما يجعلنا نقف أمامه خاضعين وساجدين ومسبحين عظمته وقدرته في كل أعماله ، كقول معلمنا القديس بولس الرسول " لأن أموره غير المنظورة تري منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتي أنهم بلا عذر " (رو20:1) .    ثم تدرج الله في إعلاناته للبشرية بالعهد القديم ، فأعطي بعض رجاله القديسين رؤي وأحلام كان الهدف منها توصيل رسائل إلهية ، مثل أبونا يعقوب (تك10:28- 15) ، ويوسف البار (تك5:37-10) ، وسليمان الحكيم (1مل5:3 -15) ودانيال النبي (دا 19:2) والقديس يوسف النجار (مت20:1-24) . أيضا كلم الآباء بالأنبياء ، وفي ملء الزمان أرسل لنا  ابنه الوحيد الجنس ، الله الكلمة المتجسد ، كقول معلمنا بولس الرسول " الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما بطرق وأنواع كثيرة ، كلمنا في هذه الأيام الاخيرة في ابنه الذي جعله وارثا لكل شئ الذي به أيضا عمل العالمين " (عب1:1-2) . وبعد صلب ربنا يسوع المسيح وموته وقبره وقيامته وصعوده إلي السموات ، أرسل ربنا يسوع المسيح الروح القدس المنبثق من الآب علي التلاميذ وكل المجتمعين معهم في علية صهيون ، كما هو مكتوب "وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين . وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت علي كل واحد منهم . وامتلأ الجميع من الروح القدس وأبتدأوا يتكلمون بألسنة أخري كما أعطاهم الروح أن ينطقوا " (أع 2:2-4) . وعندما سأل الذين نخسوا في قلوبهم معلمنا القديس بطرس وسائر الرسل ماذا نصنع ايها الرجال الإخوة . " فقال لهم بطرس توبوا وليعتمد كل واحد منكم علي اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس . لأن الموعد هو لكم ولأولادكم ولكل الذين علي بعد كل من يدعوه الرب إلهنا " (أع 38:2-39) . وأصبح الآن كل من يتوب  عن خطاياه ويؤمن بالمسيح ربا ومخلصا ويتعمد وينال مسحة الميرون المقدس ، وهي موهبة وعطية الروح القدس المجانية للخلاص ، يخلص . وجال التلاميذ مبشرين وكارزين للخلقية كلها يهودا وأمما. وكان الروح القدس الذي حل عليهم في العلية مصدر قوة ورباطة جأش ، فتلاشي منهم الخوف وحل محله الجسارة والجرأة ، غير مبالين بما يصيبهم من سجن وضرب وإهانات ومخاطر .

    موضوع هذا الكتاب هو " الروح القدس " لما له من أهمية خاصة في الكنيسة وفي المؤمنين كأفراد ، والرب القدير قادر أن يساعدني في إظهار أهمية هذا الإقنوم الإلهي وبركات حلوله علينا وسكناه فينا . وإنني أتقدم بخالص الشكر والتقدير للأب الروحي الموقرالقمص/مرقس خله لمراجعته هذا الكتاب ، الرب يعوضه علي تعب محبته . راجيا أن يكون هذا الكتاب سبب بركة لكل من يطلع عليه ، بالصلوات والطلبات التي يرفعها عنا قداسة البابا تاوضروس الثاني ، وشريكه في الخدمة الرسولية الأنبا دانييل وسائر أبائنا المطارنة والأساقفة وآبائنا القمامصة وأبائنا القسوس وإخوتنا الشمامسة وإخوتنا الرهبان. والمجد لله دائما أبديا آمين .                        

                                                                                    د. جميل زكي فلتاؤوس





الـبـــاب الأول

الـمـقـدمـــة

    إن كل المسيحيين في العالم يؤمنون بإله واحد مثلث الأقانيم . الإقنوم الأول هو الله الآب، والإقنوم الثاني هو الله الإبن ، والإقنوم الثالث هو الله الروح القدس . هذه الأقانيم الثلاثة لاهوت واحد ومتساوية في الجوهرالواحد الغير متجزئ والغير منقسم ، أزلية أبدية ، ولكل إقنوم عمله منفردا  أو مجتمعين .

     فالله الآب هو ضابط الكل ، خالق السماء والأرض ، ما يري وما لا يري .

    والله الإبن الكلمة المتجسد ، الوحيد الجنس الرب يسوع المسيح مولودا من الله الآب قبل كل الدهور ، غير مخلوق ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، به كان كل شئ . وفي ملئ الزمان ، نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء وتأنس من أجل فداء وخلاص البشرية . وفي عهد بيلاطس الوالي الروماني تألم وصلب ومات ثم قبر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث ، وفي اليوم الأربعين صعد إلي السماوات وجلس عن يمين الآب ، وفي اليوم الخمسين أرسل لنا الروح القدس الناطق في الرسل ، روح الحق الرب المحيي ، منبثق من الآب ، كما هومكتوب " متي جاء المعزي الذي سأرسله أنا اليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي " (يو26:15) ، كذلك هو مرسل من الآب بإسم يسوع المسيح كقول رب المجد يسوع المسيح " وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب بإسمي فهو يعلمكم كل شئ ويذكركم بكل ما قلته لكم " (يو26:14) . وكلنا كمسيحيين ، نسجد للروح القدس ونمجده مع الآب والإبن ، ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا ، وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي  آمين .

      الله الروح القدس ، الإقنوم الثالث ، واحد في كلا العهدين القديم والجديد ، لأن الله "هو هو أمسا واليوم وإلي الأبد " ( عب8:13 )  ، و" ليس عنده تغيير ولا ظل دوران " (يع17:1  ) . الروح القدس أزلي أبدي وغير مخلوق بل منبثق من الآب ، وهو مساو للآب في الجوهر، وكل من كان الروح القدس ساكنا فيه وممتلئا به ، يكون مسكنا للآب والإبن أيضا . الروح القدس كلي العلم والمعرفة كما هو واضح في تبكيت معلمنا القديس بطرس الرسول لحنانيا عندما اختلس من ثمن حقله الذي باعه ، عندما قال له " يا حنانيا لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب علي الروح القدس وتختلس من ثمن الحقل ... . أنت لم تكذب علي الناس بل علي الله " (أع3:5-4) ، وبذلك أوضح معلمنا القديس بطرس لحنانيا ولكل الحاضرين  ولنا أيضا لاهوت الروح القدس .

    الله الروح القدس موجود في كل مكان كقول المرنم بالمزمور " أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب . إن صعدت إلي السموات فأنت هناك . وإن فرشت في الهاوية فها أنت . إن أخذت جناحي الصبح وسكنت في أقاصي البحر فهناك أيضا تهديني يدك وتمسكني يمينك ." (مز7:139-9) ، وهو متميز بشخصه ، معبود من الكل ، واحد مع الآب والإبن في وحدة كاملة مطلقة  كما هو مكتوب " ما لم تري عين ولم تسمع أذن ولم يخطر علي بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه فأعلنه الله لنا نحن بروحه . لأن الروح يفحص كل شئ حتي أعماق الله  . ... . ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله " (1كو 9:1-12) .

    

لقد كان المن الذي أكله آباؤنا في البرية يشير ويرمز إلي ابن الله الذي أتي إلي العالم طوعا ليفدينا ويخلصنا (يو27:6-35) بذبيحة جسده علي الصليب ، كما كان الماء يشير ويرمز إلي الروح القدس الذي كان وما زال يعمل في كلا العهدين ، كما هو مكتوب " وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادي قائلا إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب . من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي . قال هذا عن الروح القدس الذي كان المؤمنين به مزمع أن يقبلوه. لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد . لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد " (يو37:7-39) .

     قديما عندما " خرج يعقوب أبو الآباء من بئر سبع وذهب نحو حاران . وصادف مكانا وبات هناك . وأخذ من حجارة المكان ووضعه تحت رأسه فاضطجع في ذلك المكان . ورأي حلما وإذا سلم منصوبة علي الأرض ورأسها يمس السماء. ... . وهوذا الرب واقف عليها فقال أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحق . ... . فاستيقظ يعقوب من نومه وقال حقا إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم . وخاف وقال ما أرهب هذا المكان . ما هذا إلا بيت الله وهذا باب السماء . وبكر يعقوب في الصباح وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه وأقامه عمودا وصب زيتا علي رأسه. ودعا اسم ذلك المكان بيت إيل ." (تك10:28-19) . لقد صب يعقوب أبو الآباء زيتا علي رأس العمود الذي أقامه ليكرس المكان ويجعله مخصصا للرب . إن عبارة بيت إيل معناها بيت الله ، والكنيسة تذكر ذلك في صلوات الإحتفال بوضع حجر أساس الكنائس وفي طقس تدشين الكنائس الجديدة ومذابحها . ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف عرف يعقوب أبو الآباء فكرة تدشين بيت الله مستخدما الزيت ؟، فالتدشين هو عمل الروح القدس. لابد أن يكون ذلك بوحي من الله له .

   وقد أمر الرب معلمنا موسي النبي وهارون أخاه أن يصنعا دهنا مقدسا للمسحة (خر22:30-26)، ليمسح به " خيمة الإجتماع وتابوت الشهادة والمائدة وكل آنيتها والمنارة وآنيتها ومذبح البخور ومذبح المحرقة وكل آنيته والمرحضة وقاعدتها. وتقديسها فتكون قدس أقداس " (خر 25:30-29).  كما كان زيت المسحة المقدسة يستخدم في مسح الكهنة والأنبياء والملوك ، فكان يحل الروح القدس بهذه المسحة المقدسة علي الملوك والأنبياء فيتنبأون . ( انظر 1صم1:10 ، 1صم13:16 ، خر15:40 ،لا36:7) . وقد مسح إيليا النبي أليشع بن شافاط بطرح رداءه عليه ، فحل الروح القدس علي أليشع وأصبح نبيا بدون استخدام دهن المسحة المقدسة (1مل19:19-21) . كما أمر الله موسي النبي أن يقرب إليه أخاه هرون وبنيه معه من بين بني إسرائيل ليكهن لي (خر1:28) . ... وأعطاه طريقة تقديسهم كما هو مكتوب في (خر1:29-46) .

إن الفرق بين مسحة العهد القديم ومسحة الميرون المقدس بالعهد الجديد كبير ، فدهن المسحة المقدسة بالعهد القديم كانت  لمسح وتكريس الملوك والكهنة والأنبياء ، بواسطتها كان يحل عليهم الروح القدس لإتمام العمل المكلفين به من الله ، أما في العهد الجديد  فمسحة الميرون هي لكل مؤمن تائب ينال نعمة العماد ، ومما هو جدير بالذكر أن الإنسان المعمد يغطس في ماء جرن المعمودية المحتوي علي نقط من  الميرون المقدس ليقدسه ،  لأن الميرون يشير إلي حلول الروح القدس في المياه لكي يولد منها الإنسان ولادة ثانية جديدة من الماء والروح كقول ربنا يسوع المسيح " إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله " (يو5:3) . ثم بعد ذلك يرشم المعمد 36 رشمة بالميرون المقدس لحلول الروح القدس عليه بمواهبه ونعمه وبركاته ويسكن فيه ويكون معه إلي الأبد .

  والآن الروح القدس يسكن في كل أولاد الله حتي الأطفال الصغار الذين نالوا هذه المسحة المقدسة بزيت الميرون المقدس بعد عمادهم ، والسيد المسيح قال عن الأولاد الصغار " دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات " (مت19:14 )، (مر14:10)، وعندما قدموا إليه الأطفال "احتضنهم ووضع يديه عليهم وباركهم" (مر16:10) لأنهم عماد وأساس كنيسة المستقبل في أي جيل من الأجيال  ، كما أن الأطفال يولدون وهم وارثون خطيه أبوينا الأولين ، فلماذا تحرمهم الكنيسة من المعمودية اللازمة لخلاصهم بغفران خطاياهم الموروثة من آدم وحواء ومن سر مسحة الميرون المقدس لسكني الروح القدس فيهم لكي يكونوا محللين للتناول من سر الافخارستيا . أما من ناحية إيمانهم ، فالأطفال يصدقون كل ما يقوله لهم الأباء لا يشكون ولا يجادلون ولذلك قال عنهم الرب  " الحق أقول لكم إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات " (مت3:18) .

    الروح القدس الذي حل علينا عندما نلنا سر المسحة بالميرون المقدس يثبتنا في ربنا يسوع المسيح الذي لبسناه في المعمودية ، كقول معلمنا القديس بولس الرسول " لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح " ( غل 27:3) ، وإذا أخطأنا فإن الروح القدس الساكن فينا يبكتنا حتي نعترف لله أمام أب الإعتراف بعد أن نكون قد تبنا توبة صادقة  ثم نتقدم للتناول من الأسرار المقدسة  فتغفر هذه الخطية كقول معلمنا يوحنا الرسول " إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لخطايانا . ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضا "(1يو1:2-2). إننا ننال سكني الروح القدس فينا فور إيماننا بالبشارة المفرحة بربنا يسوع المسيح إيمانا قلبيا وقبولنا سرالمعمودية وسر مسحة الميرون المقدس ، كقول معلمنا القديس بولس الرسول " إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم الذي فيه أيضا إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس"  (أف13:1) . إن الله الروح القدس يعمل فينا إذا كان لدينا الإرادة الصالحة ، فهو يجعل شريعة الله مكتوبة في قلوبنا ومطبوعة في أذهاننا بعد نوالنا الولادة من الماء والروح ، فالماء هو كلمة الله الحية ، والروح هو الروح القدس ، كقول معلمنا القديس بطرس الرسول " مولودين ثانية لا من زرع يفني بل مما لا يفني بكلمة الله الحية الباقية إلي الأبد " (1بط23:1) ، لأن مصدر هذه الولادة الثاية هو ربنا يسوع المسيح بالروح القدس المنبثق من الآب .

    هناك أناس كثيرون موتي روحيا يعيشون حياة العالم " لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم " (1يو 16:2) وهم في نظر الله أمواتا ، ولكنهم بتوبتهم وإيمانهم بشخص ربنا يسوع المسيح وبالذي أرسله ينتقلون من الموت إلي الحياة كقول ربنا يسوع المسيح  بفمه الطاهر  " الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلي دينونة بل انتقل من الموت إلي الحياة "(يو24:5)  . 

    في الأبواب التالية سوف ندرس عمل الروح القدس في ثلاث فترات زمنية متلاحقة، وهذه الفترات الثلاث هي :-

 الباب الثاني ، عمل الروح القدس في خلال فترة العهد القديم ، ابتداء من بدء الخليقة إلي بشارة الملاك لزكريا الكاهن .

الباب الثالث ، عمل الروح القدس في الفترة ما بين نهاية العهد القديم وميلاد كنيسة  العهد الجديد وهذه الفترة تبدا من بشارة الملاك لزكريا الكاهن حتي إرسال ربنا يسوع المسيح للروح القدس المنبثق من الآب في يوم الخمسين.

الباب الرابع ، عمل الروح القدس في فترة كنيسة العهد الجديد ابتداء من ميلاد كنيسة العهد الجديد عندما أرسل الرب الروح القدس المنبثق من الآب ليسكن في الرسل وكل المؤمنين ويكون فيهم حتي يوم مجيئ الرب علي السحاب لإختطاف كنيسته المجيدة .

 


 


 


الـبـــاب الـثــانـي


عمــل الروح القدس في خلال فترة  العهــد القديــم



    في بداية أول سفر في الكتاب المقدس وهو سفر التكوين يذكر الوحي الإلهي أنه  "في البدء خلق الله السموات والأرض . وكانت الأرض خربة وخالية وعلي وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف علي وجه المياة " (تك1:1-2) . فالله الروح القدس ليس مخلوق بل منبثق من الله الآب أزلي أبدي ، واحد في الجوهر مع الآب والإبن . الروح القدس هو روح الحكمة وهو ينبوع ومانح العطايا الإلهية للإنسان ، والله الآب يعمل كل الأشياء من خلال الإبن الكلمة بالروح القدس ، فكل البركات الروحية تصل إلي الإنسان من خلال ربنا يسوع المسيح بالروح القدس . إن غاية الوحي الإلهي فيما أخبرنا عن الخلق هو تصحيح للأفكار الخاطئة  للشعب الإسرائيلي بالعهد القديم التي تسربت اليه من الشعوب الوثنية المحيطة بهم  كما هو مكتوب في (2تي15:2 – 21) . وقد كان الشعب اليهودي في العهد القديم يعتقد أن المسيا المنتظر سوف يأتي ملكا يملك علي الأرض ويجلس علي كرسي داود ليحقق لهم أحلامهم ويحررهم من الإستعمار الروماني ، حتي أنهم سألوا السيد المسيح  " قائلين يا رب هل في هذا الوقت ترد الملك إلي إسرائيل . فقال لهم ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه ." (أع6:1-7) . ولم يعلموا أن ’ملك المسيح هو ’ملك روحي ، فقد ملك علي قلوب كل المؤمنين به. كما أنهم كانوا يعتقدون أن المسيح سوف يأتي مخلصا لليهود وليس للأمم ، في حين أن المسيح جاء فاديا ومخلصا لكل من يؤمن به  من كل أمة ومن كل قبيلة ومن كل جنس ومن كل لسان ومن كل لون.

      كان روح الرب في العهد القديم يحل علي بعض الأفراد مثل بلعام بن بعور الساحر الوثني والنبي الكذاب فتنبأ (عد2:24-10) ، فالله يستخدم كل الناس حتي الأشرار للقيام بأعمال معينة من قبل الله ، كما كان يحل روح الرب علي ألأنبياء فيوحي إليهم بما يتنبأون ويصونهم من الخطأ ،و كان يحل علي بعض الملوك فتنبأوا مثل شاول الملك (1صم 6:10-13) الذي حل عليه روح الرب فتنبأ  " ثم ذهب روح الرب من عند شاول وبغته روح ردي من قبل الرب "  (1صم14:16) . كذلك "ولبس روح الله زكريا بن يهوياداع الكاهن فوقف فوق الشعب وقال لهم هكذا يقول الله لماذا تتعدون وصايا الرب فلا تفلحون . لأنكم تركتم الرب قد ترككم "(2 أخ20:24) ، وأيضا " ولبس روح الرب جدعون فضرب بالبوق، فاجتمع أبيعزر وراءه. ... ." (قض 34:6) ، كما أنه عندما  "قال موسي للرب لماذا أسأت إلي عبدك ولماذا لم أجد نعمة في عينيك حتي أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب عليّ." (عد11:11) ، قال الرب لموسي " اجمع لي سبعين رجلا من شيوخ إسرائيل الذين تعلم أنهم شيوخ الشعب وعرفاؤه وأقبل بهم إلي خيمة الإجتماع فيقفوا هناك معك . فأنزل أنا وأتكلم معك هناك وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم فيحملون معك ثقل الشعب فلا تحمل أنت وحدك " (عد16:11-17) ، فحل الروح القدس علي السبعين شيخا فتنبأوا، والمفهوم من قول الرب " أخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم " هو أن الله أراد أن ’يثبت للشيوخ السبعين أن واجباتهم معاونة موسي النبي وألا ينفصلوا عنه ويكونون روحا وفكرا واحدا مع موسي النبي ، يعملون في انسجام ووحدانية تامة حتي لا يحدث انقسام في الجماعة ، ومما لا شك فيه أن الروح الذي علي موسي النبي لم ينقص أو ينشأ عليه أي تغييرعندما أخذ الله من الروح الذي عليه ووضعه علي السبعين شيخا ، بل كانوا بذلك فكرا واحدا . ومنذ بدء الخليقة وحتي نهاية الأيام وروح الله يعمل دائما في الإنسان لتجديده لكي يعيش حياة مقدسة ، ولذلك تنبأ الأنبياء عن مجئ المسيا المنتظر في ملئ الزمان كما هو مكتوب " لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2بط 21:1).

     كان حلول الروح القدس علي بعض الناس يعطيهم بعض المواهب ، فقد أعطي شمشون قوة خارقة ، وقد حل عليه روح الرب ثلاث مرات  (قض 25:13، قض6:14، قض14 : 19) . كان كل من يدعوه الرب لخدمته يملؤه من الروح القدس فقد حل علي بصلئيل بن أوري وملأه من روح الله  وأعطاة حكمة وفهم ومعرفة فائقة في صنع كل ما يخص خيمة الإجتماع (حز 3:31-6) ، هذه أول مرة يذكر فيها الكتاب المقدس الإمتلاء من روح الله ، إلا أنه لم يكن يحل عليهم حلولا عاما كحلوله في العهد الجديد الذي ’يصير جميع المؤمنين المجتمعين هياكل مقدسة للروح القدس ، ويسكن فيهم إلي الأبد ، فعطية الروح القدس كانت توهب بما يتناسب مع استعداد ومقدرة الشعب لقبول هذه العطية في أي فترة زمنية ، لأن الله كان يتدرج في اظهار نفسه بوسائل وطرق مختلفة . وكان بعض الأنبياء يتنبأون بنبوات خاصة بالرب يسوع مثل إشعياء (إش 1:61-3) وداود (مز3:19) وميخا (1:4-2) وزكريا(10:12) ويوئيل (28:2-30)وحزقيال (1:16-14) وغيرهم وكان الروح القدس يوحي اليهم بما يقولونه أو يكتبونه ويصونهم من الحطأ . ولم يكن كل المؤمنين الذين ماتوا علي الرجاء في العهد القديم يتمتعون بهذا الحلول الإلهي العام ، لإنحرافهم عن أحكام الرب وقساوة قلوبهم وتمسكهم بالتفسير الحرفي للشريعة ، وأحيانا عبادتهم الوثنية  كقول الرب  "وأرش عليكم ماء طاهرا فتطهرون . من نجاستكم ومن كل أصنامكم أطهركم . وأعطيكم قلبا جديدا وأجعل روحا جديدة في داخلكم وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم  . وأجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها" (حز25:36-27) . فكل المؤمنين الذين ماتوا علي الرجاء بالعهد القديم لم يسكن فيهم الروح القدس ، لأنهم لم ترفع عنهم خطاياهم السالفة (رو21:3-26) ،" لأنه لا يمكن أن  دم ثيران وتيوس يرفع  خطايا " (عب4:10) ، وهذه الذبائح الحيوانية كانت تشير إلي ذبيحة المسيح الكاملة لغفران الخطايا للبشرية كلها، فالمعمودية من الماء والروح مع التبرير بغفران الخطايا بدم صليبه ، ضرورية لسكني الروح القدس في المؤمنين . وكان هذا هو السبب في عدم سكني الروح القدس في ملوك وانبياء العهد القديم ، إلي أن مات المسيح علي الصليب ، عاملا الصلح بدم صليبه ، ثم قام من بين الأموات في اليوم الثالث ، وصعد إلي السموات في اليوم الأربعين ، وأرسل لنا الروح القدس المنبثق من الآب في يوم الخمسين ليسكن في قلوب كل المؤمنين بربنا يسوع المسيح (يو38:7-39 ، 7:16-11). ولزيادة الإيضاح فإنه ليس كل الذين ماتوا علي الرجاء بالعهد القديم تمتعوا بحلول الروح القدس عليهم ، وليس كل الذين حل عليهم الروح القدس كانوا قد ماتوا علي الرجاء ، كما هو مكتوب  "في اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادي قائلا إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب . من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي . قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه . لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد . لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد . "(يو37:7-39) . 







الـبــاب الـثـــالـث

الروح القدس وعمله في الفترة ما بين العهد القديم وميلاد كنيسة العهد الجديد  



    إن عمل الروح القدس في هذه الفترة كان عملا إلهيا مجيدا . هذه الفترة تلي فترة العهد القديم وتبدا ببشارة الملاك جبرائيل لزكريا الكاهن بأن امرأته إليصابات ستلد له أبنا ويسميه يوحنا عندما كان يبخر في هيكل الرب ، ثم تمتد إلي بشارة الملاك جبرائيل للعذراء مريم  بأنها ستحبل وتلد ابنا وتسميه يسوع ثم مولد الرب يسوع وكل أحداث الميلاد المجيد وما تبعها من ختان ثم عماد الرب يسوع المسيح في نهر الأردن من يوحنا المعمدان وكرازته ثم صلبه وقيامته في اليوم الثالث حتي صعوده إلي السموات في اليوم الأربعين وتنتهي هذه الفترة في اليوم الخمسين وهو يوم ميلاد كنيسة العهد الجديد ، وترتيب الأحداث هو كما يلي :

أولا : زكريا الكاهن وزوجته إليصابات والإمتلاء من الروح القدس .

    في أيام هيرودس الكبير ملك اليهودية كان زكريا الكاهن وزوجته إليصابات "بارين أمام الله وسالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم" (لو6:1) ، وكانت إليصابات عاقرا وكلاهما متقدمين في أيامهما . وبينما كان زكريا الكاهن يبخر في هيكل الرب ، فقد كان البخور يقدم في الهيكل مرتين يوميا صباحا ومساءا. وكان الناس يرفعون صلواتهم وطلباتهم لله مع تصاعد البخور في الهيكل ، أثناء ذلك " ظهر له ملاك الرب واقفا عن يمين مذبح البخور . ... فقال له ملاك الرب لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت وامرأتك إليصابات ستلد لك ابنا وتسميه يوحنا . ... . ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس . ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلي الرب إلاههم . ... . فقال زكريا للملاك كيف أعلم هذا لأني أنا شيخ وإمرأتي متقدمة في أيامها . أجاب الملاك وقال له أنا جبرائيل الواقف قدام الله و’أرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا . وها أنت تكون صامتا ولا تقدر أن تتكلم إلي اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته ." (لو13:1-20) .  لقد ظهر جبرائيل الملاك لزكريا الكاهن بصورة مرئية وتكلم معه ليخبره استجابة صلواته ، فالله يستجيب الصلوات التي ترفع منا وتكون حسب مشيئته في الوقت المناسب الذي يحدده الله ، ولا شئ يستحيل عليه . كان يوحنا من بطن أمه ممتلئ من الروح القدس من أجل إرساله أمام السيد المسيح ليعد له الطريق ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلي الرب إلاههم .هذا الحدث العظيم وهو امتلاء يوحنا من بطن أمه بالروح القدس  أشبه بتقديس إرميا قبل خروجه من الرحم فقد كانت كلمة الرب إلي إرميا النبي قائلا " قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك . جعلتك نبيا للشعوب . ... . ومد الرب يده ولمس فمي وقال الرب لي ها قد جعلت كلامي في فمك . "(إر5:1 ، 9 ). فالله يختار رجاله أحيانا من قبل ولادتهم ، يقدسهم و يملأهم من الروح القدس ، ليعدهم للرسالة التي سيقومون بها .

    يذكر الإنجيل " الإمتلاء من الروح القدس" ولكنه  ليس" سكني الروح القدس" لأن دور يوحنا ابن زكريا الكاهن كان مشابها لدور أنبياء العهد القديم في حث الشعب علي ترك الخطية بالتوبة والرجوع إلي الله ، وإعداد الطريق أمام المسيح المخلص الذي انتظروه طويلا  . " ولما كملت أيام خدمته مضي إلي بيته. وبعد تلك الأيام حبلت إليصابات امرأته ." (لو 23:1-24) .

ثانيا : التجسد الإلهي وعمل الروح القدس .

    " في الشهر السادس ’أرسل جبرائيل الملاك من الله إلي مدينة من الجليل اسمها ناصرة إلي عذراء مخطوية لرجل من بيت داود اسمه يوسف . واسم العذراء مريم . فدخل إليها الملاك وقال سلام لك أيتها المنعم عليها. الرب معك .مباركة أنت في النساء . ... . فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله . وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع . هذا يكون عظيما وابن العلي يدعي ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه. ... . فأجاب الملاك وقال لها . الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعي ابن الله. وهوذا إليصابات نسيبتك هي أيضا ’حبلي بابن في شيخوختها . "(لو26:1-36) .

    من محبة العذراء مريم الخالصة الباذلة المضحية ، ذهبت فورا لتخدم نسيبتها إليصابات لأنها كانت متقدمة في السن هي وزوجها زكريا الكاهن . ويقول الكتاب أنها "دخلت بيت زكريا وسلمت علي إليصابات . فلما سمعت إليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها . وامتلأت إليصابات من الروح القدس . وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك. فمن أين لي أن تأتي أم ربي إليّ . فهوذا حين صار صوت سلامك في أذنيّ ارتكض الجنين بابتهاج في بطني . ... ." (لو40:1-45) .

    كانت بشارة الملاك جبرائيل إلي زكريا الكاهن أن ابنه يوحنا "من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس "، ولذلك عندما سمعت إليصابات سلام مريم ارتكض الجنين بإبتهاج في بطنها لأنه علم بالروح القدس الممتلئ به أنه أمام طفل آخر في بطن أمه هو ملك الملوك ورب الأرباب "عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا "(إش 14:7) ، كذلك امتلأت إليصابات من الروح القدس وتنبأت وقالت " فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ " (لو43:1) . كما "امتلأ زكريا  أبوه من الروح القدس وتنبأ قائلا مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداء لشعبه . وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه" (لو67:1-69) . لقد ملأ الروح القدس كل العائلة الإبن من بطن أمه وكذلك أمه عندما سمعت سلام القديسة العذراء مريم وكذلك الأب زكريا الكاهن عند انتهاء مدة الصمت، لأنهما " كانا بارين أمام الله وسالكين في جميع وصاياه وأحكامه بلا لوم " (لو6:1) .

    كان هناك أناس مملوئين من الروح القدس قبل أن يتمم المسيح عمل الفداء والخلاص وقبل إرساله الروح القدس يوم الخمسين (خر2:31-3 ، لو67:1)، وقد كان هذا لكي يقوموا بأداء مهمة معينه من قبل الرب ، ولكن هؤلاء لم يكن الروح القدس ساكنا فيهم ولا ماكثا معهم إلي الأبد ، لأن ربنا يسوع المسيح لم يكن قد تمجد بعد . ولكن بعد صعود المسيح إلي السماوات وإرساله الروح القدس فإن موهبة ونعمة سكني الروح القدس تتم فور توبة الإنسان وإيمانه بالرب يسوع فاديا ومخلصا ثم نواله العماد ومسحة الميرون المقدس كقول معلمنا بولس الرسول " لأننا جميعا بروح واحد أيضا اعتمدنا إلي جسد واحد يهودا كنا أم يونانيون عبيدا أم أحرارا وجميعنا سقينا روحا واحدا ." (1كو 13:11) ، أيضا " لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح " غل 27:3) . إن المؤمنين الذين يسكن فيهم الروح القدس أو يلبسون روح الرب (1أخ 20:24) ، (قض34:6) وكذلك المؤمنين الذين يلبسون المسيح  يكونون بذلك مؤهلين لحياة القداسة، " القداسة التي بدونها لن يري أحد الرب " (عب14:12) .



ثـالثــا : سمعـــان الشــيخ وعمـــل الـروح القــدس :

" وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان وهذا الرجل كان بارا تقيا ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه . وكان قد أوحيّ إليه بالروح القدس أنه لا يري الموت قبل أن يري مسيح الرب . فأتي بالروح إلي الهيكل . ولما دخل بالصبي يسوع أبواه ليصنعا له حسب عادة الناموس أخذه علي ذراعيه وبارك الله وقال الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام . لأن عينيّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب. نور إعلان للأمم ومجدا لشعبك إسرائيل. وكان يوسف وأمه يتعجبان مما قيل فيه . وباركهما سمعان وقال لمريم أمه ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل ولعلامة تقاوم . وأنت أيضا يجوز في نفسك سيف . لتعلن أفكار من قلوب كثيرة ." (لو25:2-35) . لقد أتي سمعان الشيخ بالروح إلي الهيكل (لو25:2 -27) ، لذلك أرشده الروح القدس علي الطفل يسوع ، واستطاع بالروح القدس التنبؤ بشأنه وبشأن امه العذراء مريم، والعلامة التي تقاوم هي علامة الصليب المقدس .

    كانت عادة اليهود أن يختنوا كل طفل ذكر في اليوم الثامن لمولده ، ويعطونه اسما في ذلك اليوم (لا3:12 ، لو59:1-60) . وقد كان الختان حدثا هاما أمر به الله في بداية إعداده لشعب بني إسرائيل (تك4:17-14) ولا زال الختان يمارس في العائلات اليهودية ويعني دخول الطفل الذكر إلي عهد الله مع بني إسرائيل ، كما يرمز إلي انفصال اليهود عن الأمم .

رابـعــا : حـنـة الـنـبـيــة وعـمــل الـروح الـقــدس :

   " كانت حنة النبية متقدمة في أيام كثيرة . وقد عاشت مع زوج سبع سنين بعد بكوريتها . وهي أرملة نحو أربع وثمانين سنة لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلا ونهارا . فهي في تلك الساعة وقفت تسبح الرب وتكلمت عنه في جميع المنتظرين فداء أورشليم " (لو36:2-38) .  كانت هذه العابدة المتقدمة جدا في السن تأمل في رؤية المسيح ، وبإرشاد من الروح القدس كانت من ضمن أول من شهدوا ليسوع  . وبسبب تقدمها في السن وتعبدها في الهيكل لمدة 84 عاما بعد وفاة زوجها ، كان لنبوتها وزن خاص ، ولذلك دعيت نبية ، نظرا لإلتصاقها الوثيق بالرب . وكان دورها هو التكلم بتسبيح الله وإعلان حقه .

خـامـســا : الـروح الـقــدس ويـوحـنــا الـمـعـمــدان :

    كان يوحنا المعمدان يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا ، وكان يعمد في بيت عبرة في عبر الأردن ، وكما هو مكتوب عنه بإشعياء النبي " صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب . قوموا في القفر سبيلا لإلهنا . كل وطاء يرتفع وكل جبل وأكمة ينخفض ويصير المعوج مستقيما والعراقيب سهلا . فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر جميعا لأن فم الرب تكلم ." (إش 3:40-5) ، (لو4:3-6) . لقد أجاب يوحنا المعمدان الكهنة واللاويين الذين سألوه من أنت فتنبأ وقال " أنا أعمد بماء . ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه . هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه . "  (يو26:1- 27 ). لقد جاء يوحنا المعمدان وامتلأ من الروح القدس من بطن أمه (لو15:1) ، ولذلك عندما رأي المسيح مقبلا إليه أرشده الروح القدس فقال " هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم . ... . وأنا لم أكن أعرفه لكن ليظهر لإسرائيل لذلك جئت أعمد بالماء .  وشهد يوحنا قائلا إني قد رأيت الروح نازلا مثل حمامة من السماء فاستقر عليه . وأنا لم أكن أعرفه . لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي تري الروح نازلا ومستقرا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس . وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله " (يو29:1-34) .

ســـادســـا : السيد الـمـسـيـــح والـروح الـقــدس :

    سبق أن ذكرت أن الروح القدس لم يسبق أن سكن في أي إنسان إلا في فترة كنيسة العهد الجديد كما هو موضح بالباب الرابع ، ولكن في فترة العهد القديم كان الروح القدس يحل علي الأنبياء والملوك والكهنة فيتنبأون كما هو موضح بالباب الثاني ، وكان الروح القدس في الفترتين التاليتين لنهاية العهد القديم يملأ بعض الأفراد  فيتنبأون كما هو موضح بالباب الثالث والباب الرابع . إلا أن  الروح القدس نزل من السماء واستقر علي ربنا يسوع المسيح ، عند عماده في نهر الأردن ، كشهادة يوحنا المعمدان الذي قال " إني قد رأيت الروح نازلا مثل حمامة من السماء فاستقر عليه " (يو32:1) ، كما أن الله مسحه بالروح القدس والقوة (أع38:10)، وأقيم من الأموات بالروح القدس (رو 11:8) وأيضا بقوة لاهوته ، كما "أوصي بالروح القدس للرسل الذين اختارهم " (أع5:1) لأن هذه الأمور كانت أمورا خاصة بالرب يسوع المسيح لأنه هو الله الظاهر في الجسد ، كبشارة الملاك للسيدة العذراء مريم  "الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعي ابن الله " (لو35:1). كما أن المسيح له المجد  كونه ابن الله كان مملوءا من الروح القدس في كل الأوقات ، وقد حل عليه الروح القدس المنبثق من الآب مرتين ، المرة الأولي وهو في الجسد كإبن الإنسان بعد عماده من يوحنا المعمدان في نهر الأردن كما هو مكتوب  "فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء . وإذا السموات قد انفتحت له فرأي روح الله نازلا مثل حمامة وآتيا عليه. وصوت من السماء قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت"(مت 16:3-17) ، كما أخذ الروح القدس المنبثق من الآب مرة ثانية وهو في اللاهوت كإبن الله الوحيد الجنس ، وذلك بعد موته علي الصليب وقيامته وصعوده إلي السموات لكي يرسله للتلاميذ ولنا نحن المؤمنين به ، كقول معلمنا القديس لوقا البشير  "وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب سكب هذا الذي أنتم تبصرونه وتسمعونه"  (أع33:2) . 

    وقد تنبأ معلمنا إشعياء النبي عن مسحة المسيح وقال " روح الرب عليّ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق " (إش 1:61 ) ، كما ترنم المرنم بالمزمور وقال  " كرسيك يا الله إلي دهر الدهور . قضيب استقامة قضيب ملكك . أحببت البر أكثر من الإثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك . كل ثيابك مر وعود وسليخة " (مز 6:45-8) ، وقد اقتبسها معلمنا بولس الرسول كما هو مكتوب " وأما عن الإبن كرسيك يا الله إلي دهر الدهور . قضيب استقامة قضيب ملكك . أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بزيت الإبتهاج أكثر من شركائك " (عب 8:1-9) . 

   إن حلول الروح القدس علي المسيح ابن الإنسان مرتبط بالقوة ، فالمسيح له المجد  "مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيرا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه " (أع 38:10) . والقوة هنا ليست القوة الجسدية بل القوة الروحية والسلطان لإخراج الشياطين وشفاء المرضي وإقامة الموتي  . 

    لذلك دعي ربنا يسوع بالمسيح لأنه هو الممسوح من الروح القدس ، كذلك دعينا نحن مسيحيين لإيماننا بالمسيح الممسوح بالروح القدس ربا وفاديا ومخلصا ، وقد قبلنا المسحة المقدسة بزيت الميرون لنوال الروح القدس بعد أن حصلنا علي العماد المقدس .         

الـبـــاب الـرابـــع

الـروح الـقـدس وعـمله في ميلاد كنيسة العهـد الجـديـد



    في العهد الجديد عهد النعمة ، بعد أن تمجد رب المجد يسوع علي الصليب صعد إلي السماء ، وأرسل لنا الروح القدس المنبثق من الآب في يوم الخمسين ليحل علي التلاميذ وعلينا نحن المؤمنون وليسكن فينا ويمكث معنا إلي الأبد كقول ربنا يسوع المسيح " إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلي الأبد . روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم." (يو15:14-17) . أيضا " ومتي جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي . وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء"(يو26:15-27) . وقد كان يوم الخمسين هو يوم ميلاد كنيسة العهد الجديد ، فقد  أرسل لنا الروح القدس المعزي في اليوم الخمسين ، وهو عطية مجانية لكل المؤمنين بالمسيح ربا ومخلصا في عهد النعمة ، العهد الجديد ، ليكون رفيق مسيرتنا في هذا العالم ، ليقدم لنا العون والإرشاد والتبكيت أذا أخطأنا أو تكاسلنا أو أصابنا فتور في حياتنا الروحية . الروح القدس ماكث معنا ، وكائن فينا إلي يوم الفداء (يو 16:14-17) لايمكن أن يتركنا ، ومعلمنا القديس بولس الرسول يقدم لنا النصح والارشاد فيقول " ولا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء"(أف 30:4) . فقد أخذنا ختم الروح القدس في سر المسحة المقدسة بزيت الميرون بعد عمادنا كقول رب المجد يسوع للتلاميذ  " إذهبوا للعالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد خلص . ومن لم يؤمن يدن " (مر16:16) .   

      قد مسحنا الله وختمنا ووهبنا عربون الروح القدس ليسكن في قلوبنا ويثبتنا في المسيح (2كو21:1-22)، لذلك يقول " الذي فيه أيضا إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم الذي فيه أيضا إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس " (أف13:1-14) ، فالله يختم المؤمنين فور إيمانهم بربنا يسوع المسيح ونوالهم العماد ومسحة الميرون المقدس بختم الروح القدس ، والختم هنا يفيد ضمان الملكية لله حتي يوم المجئ الثاني لربنا يسوع المسيح . وهذا الختم دائم وثابت في كل المؤمنين الذين نالوا مسحة الميرون المقدس ، ولازم لخلاصهم الأبدي المضمون ، وحتي لو ترك أي مؤمن المسيح وذهب ليعبش في العالم فإنه يطفئ الروح القدس الساكن فيه ، ولكنه يظل مختوما بروح الموعد القدوس ، ويظل الروح القدس يبكته حتي يرجع ويتوب ويعترف بخطاياه ويتقدم للتناول من الأسرار المقدسة ، فيقبله الله ويعيد له أفراح السماء ، لأن خلاصه الأبدي مضمون ، كما هو مكتوب "إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارا لا يحتاجون إلي توبة " (لو7:15) . فكل مؤمن مختوم  بختم الروح القدس، محفوظ ومحروس من الآب والإبن كقول الرب "خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني . وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلي الأبد ولا يخطفها أحد من يدي . أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي . أنا والآب واحد " (يو27:10-30) . معلمنا بطرس الرسول  أيضا يقول "عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفني بفضة أوذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء . بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح معروفا سابقا قبل تأسيس العالم ولكن قد أظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم"   (1بط18:1-20) .

المسيح له المجد بعد اتمامه الفداء وصعوده إلي السماوات وجلوسه عن يمين الآب ، أرسل لنا الروح القدس المنبثق من الله الآب ليسكن فينا ويمكث معنا إلي الأبد كقول معلمنا القديس بولس الرسول " أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنكم لستم لأنفسكم . لأنكم قد اشتريتم بثمن . فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله ." (1كو19:6-20) ، كذلك قول ربنا يسوع المسيح للتلاميذ " لكني أقول لكم ألحق أنه خير لكم أن أنطلق . لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي . ولكن إن ذهبت أرسله لكم " (يو 7:16) .

    لقد أرسل لنا ربنا يسوع المسيح الروح القدس ليسكن فينا ويكون معنا ، ولكي يمنحنا مذاقة الحياة الأبدية كعربون ونحن متغربين عن موطننا السماوي ، لكي نعرف ونقدر مقدار عظمة هذا الميراث الأبدي الذي ينتظرنا  . الروح القدس الذي يأخذه المؤمنين هو المسحة وهو الختم وهو العربون .

    قال الرب للتلاميذ " وها أنا أرسل لكم موعد أبي . فأقيموا في مدينة أورشليم إلي أن تلبسوا قوة من الأعالي " (لو49:24) ، كذلك قال لهم " لكنكم ستنالون قوة متي حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شهودا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلي أقصي الأرض " (أع 8:1) . هذه القوة التي أخذها التلاميذ مع حلول الروح القدس عليهم كانت قوة روحية من أجل الكرازة بإسمه المبارك ، ففي عظة واحدة لمعلمنا القديس بطرس الرسول آمن وخلص واعتمد نحو ثلاثة آلاف نفس (أع 41:2) ، كما كان الرسل يجاهرون بالبشارة بكل جرأة " وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع ونعمة عظيمة كانت علي جميعهم " (أع 33:4) وكانوا يتحملون الضرب والإهانات والسجن والاطهادات بفرح كقول معلمنا القديس بولس الرسول " متقوين بكل قوة بحسب قدرة مجده لكل صبر وطول أناة بفرح ." (كو11:1) ، وكقول معلمنا القديس بطرس الرسول " إن عيرتم بإسم المسيح فطوبي لكم لأن روح المجد والله يحل عليكم " (1بط 14:4) .

    كان الروح القدس هو الذي يعطي الكلمة في الكرازة والبشارة باسم الرب كقول معلمنا القديس بولس الرسول " مصلين بكل صلوة وطلبة كل وقت في الروح وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة لأجل جميع القديسين ولأجلي لكي ’يعطي لي كلام عند افتتاح فمي لأعلم جهارا بسر الإنجيل" (أف 18:6-19) . 

    في عهد الرسل بعد إرسال المسيح الروح القدس المنبثق من الآب ، تكونت كنيسة العهد الجديد التي هي الجسد وأصبح المسيح هو الرأس ،  وكان كل يوم ينضم إليها أعضاء جدد قد آمنوا واعتمدوا علي اسم المسيح ونالوا عطية الروح القدس بوضع أيادي الرسل عليهم . ومع الزيادة الكبيرة في أعداد المعمدين الجدد الداخلين إلي كنيسة العهد الجديد في بلاد كثيرة أصبح مستحيلا علي الرسل القيام  بهذا السر عن طريق وضع الأيادي لينالوا الروح القدس ، فقام الرسل بصنع الميرون المقدس ، فقد أخذ الرسل بعض الحنوط التي كفن بها  جسد  المخلص (يو39:19) ، والتي كانوا محتفظين بها ، وأذابوها مع الأطياب التي أحضرتها النسوة (لو56:23)  في زيت الزيتون الصافي  وأقاموا جميعا عليها الصلوات في علية صهيون سنة33 ميلادية وصيروه دهنا مقدسا مباركا سموه الميرون المقدس وأمروا أن يقوم خلفائهم من رؤساء الكهنة بإضافة زيت الزيتون النقي والطيب والحنوط إلي ما تبقي من خميرة حتي لا ينقطع  . وعند حضور القديس مرقس الرسول كاروز الديار المصرية إلي مصر أحضر معه جزءا من الميرون المقدس كخميرة وأيضا جزءا من الحنوط التي كفن بها جسد مخلصنا لصنع الميرون في مصر . وفي عهد البابا أثناسيوس الرسولي البابا العشرين من باباوات الكرسي السكندري ، قام بإعداد الحنوط والأطياب التي أمر الله بها موسي النبي ليصنع منها الدهن المقدس (خر 22:30) . وقام بإبلاغ الأباء بطاركة كراسي روما وأنطاكية والقسطنطينية سنة 340 ميلادية حيث تم طبخ وتقديس الميرون المقدس بالإسكندرية بتلاوة أسفار العهد القديم والعهد الجديد ، والصلاة كانت لمدة ثلاثة أيام وثلاثة ليالي ، وأثناء الطبخ أضاف البابا أثناسيوس الحنوط الذي كان قد أحضره مرقس الرسول كاروز الديار المصرية ، وبعد الإنتهاء من الطبخ أضاف الخميرة المقدسة المتبقية من زيت الميرون الذي أحضره معه القديس مار مرقس الرسول مع التقليب الجيد ، وبعد تصفيته قام بإرسال جزءا وافرا من الميرون المقدس الذي تم إعداده مع نسخة مكتوبة عن طريقة عمل الميرون المقدس إلي الآباء البطاركة فتلقفوها بشكر وفرح .

وقد تكرر عمل الميرون المقدس في عصر باباوات الإسكندرية كلما كان هناك حاجة لذلك . ففي حبرية قداسة البابا شنودة الثالث تم عمل الميرون سبع مرات ، آخرها كان في ابريل عام 2008 ميلادية بدير الأنبا بيشوي ، كما قام قداسة البابا تواضروس الثاني بعمل الميرون المقدس في إبريل 2014 ميلادية بدير الأنبا بيشوي  . كما أن التفل المتبقي بعد تصفية الميرون المقدس في الطبخات الأربعة يؤخذ ويضاف إليه  75لترمن زيت الزيتون الفلسطيني النقي لعمل زيت الغاليلاون والذي يطبخ مع التقليب المستمر ويصفي ، وبعد تقديس زيت الميرون المقدس وزيت الغاليلاون بحضورهم ثلاث قداسات آخرها قداس تلميذي عمواس ، ثاني يوم عيد القيامة المجيد ، ويعبأوا في أواني ويوزعوا علي الكنائس . ويستخدم زيت الغاليلاون في مسح المعمد عند ممارسة طقس جحد الشيطان قبل نزول المعمد في ماء المعمودية ، كذلك يضاف  بعض النقط من زيت الميرون علي ثلاث مرات لماء المعمودية للتقديس قبل نزول المعمد فيها. وبعد خروج المعمد من جرن المعمودية ، يرشم المعمد 36 رشمة بزيت الميرون المقدس ليحل الروح القدس علي المعمد ويسكن فيه إلي الأبد .

    لقد ورد بالعهد الجديد من الكتاب المقدس  تعبير" المعمودية بالروح القدس " في (مر8:1 ، يو33:1) ، (أع  5:1، أع 16:11 ) ، (1كو13:12) ،  كما ورد تعبير "المعمودية بالروح القدس ونار "  في (لو16:3 ، مت 11:3) ، في حقيقة الأمر التعبيرين واحد كما يلي:-

المعمودية بالروح القدس هي عمل المسيح في المؤمنين به عن طريق حلول الروح القدس الذي أرسله إلينا والمنبثق من الآب علي المعمد بالمسحة المقدسة ، مسحة الميرون المقدس . فالروح القدس الذي حل علينا وسكن فينا وماكث معنا بمسحة الميرون المقدس هو لتثبيتنا في المسيح وفي جسده المقدس أي كنيسة العهد الجديد . فالمعمودية بالروح القدس هي تدشين لهيكلنا الجسدي بالميرون المقدس ليكون مخصصا لله ، كذلك هي لتثبيتنا وتوحيدنا في جسد المسيح  كقول  معلمنا  القديس بولس الرسول "فدفنا معه في المعمودية للموت حتي كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن في جدة الحيوة . لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضا بقيامته ." (رو4:6-5). ويؤكد ذلك في قوله " لأننا جمبعا بروح واحد أيضا إعتمدنا إلي جسد واحد يهودا كنا أم يونانين عبيدا أم أحرارا وجميعنا سقينا روحا واحدا " (1كو 13:12) .

    أما عن تعبير " المعمودية بالروح القدس ونار " الواردتين في (مت11:3 ، لو16:3) كقول يوحنا المعمدان أن الرب يسوع "هو سيعمد بالروح القدس ونار" إشارة إلي ما حدث يوم الخمسين عندما أرسل الرب الروح القدس المنبثق من الآب كألسنة من نار ، ليمنح الرسل القوة للكرازة والبشارة بالأخبار السارة وهي إنجيل خلاصنا (أع1:2-4) ، فهاتين الآيتين تختصان بزمانين مختلفين . فالمعمودية بالروح القدس تختص بالزمان  الأول ابتداءا من حلول الروح القدس يوم الخمسين وحتي يوم اختطاف المؤمنين في المجئ الثاني لربنا يسوع المسيح ، أما المعمودية بالنار والخاصة بالزمان الثان فتكون في يوم الدينونة العظيم لغير المؤمنين الذين رفضوا أن يملكوا المسيح علي قلوبهم . ولذلك أوضح كل من معلمنا متي البشير ومعلمنا لوقا البشير في الآية التالية لآيه المعمودية " بالروح القدس ونار " قولهم " الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ويجمع قمحه إلي المخزن . وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ " (مت12:3، لو17:3) . وهذا يعني أنه في المجئ الثاني لربنا يسوع المسيح سيختطف كنيسته المجيدة أي شعبها المؤمن (القمح) إلي السماء (المخزن) ، أما الأشرار الذين رفضوا أن يملكوه علي قلوبهم   (التبن) فإنه سيحرقهم بنار لا تطفأ ، نار غضب الله ودينونته العادلة (عب27:10) أي يلقيهم في جهنم إلي الأبد حيث هناك يكونون في عذاب  دائم نتيجة الحرمان من الله.

    هناك أربعة تعبيرات لاهوتية تختص بالروح القدس وهي : "حلول الروح القدس " ،   " الإمتلاء من الروح القدس " ، " سكني الروح القدس " ، " لبس روح الرب " فالمعني والمقصود اللاهوتي لكل من هذه التعبيرات الأربعة هو :                                   

1-    كان الروح القدس يحل في العهد القديم علي بعض الأشخاص للقيام ببعض الأعمال والنبوات التي يكلفهم بها الله  ، لأنها كانت تحتاج إلي مسحة وقوة من الله ، ولم يكن هذا الحلول حلولا عاما مثل ما يحدث في كنيسة العهد الجديد كما هو موضح في ( أع 1:2- 4 ، أع 17:8 ، أع15:11) ، فليس كل المؤمنين  الذين ماتوا علي الرجاء بالعهد القديم تمتعوا بهذا الحلول ، ولا كل الذين حل عليهم الروح القدس كانوا مؤمنين ماتوا علي الرجاء مثال ذلك بلعام النبي الكذاب (عدد24 : 2) وشاول الملك  (1صم6:10) .    

2-     لم يحدث الإمتلاء من الروح القدس في فترة العهد القديم وإنما حدث في الفترتين التاليتين ابتداءا من بشارة الملاك جبرائيل لزكريا الكاهن حتي يوم مجئ الرب الثاني ، فقد كان يوحنا المعمدان من بطن أمه ممتلئ من الروح القدس (لو15:1) ، كذلك أمه أليصابات امتلأت من الروح القدس (لو41:1) أيضا أبوه زكريا الكاهن امتلأ من الروح القدس وتنبأوا (لو67:1) . أيضا حدث الإمتلاء من الروح القدس في كنيسة العهد الجديد، فقد امتلأ جميع الرسل من الروح القدس وهم في العلية يوم الخمسين ، يوم العنصرة (أع4:2) ، أيضا  إمتلأ معلمنا القديس بطرس من الروح القدس (أع8:4) ، كذلك امتلأ المصلين المجتمعين بالروح القدس (أع31:4) ، أيضا السبعة شمامسة كانوا مملوءين من الروح القدس والحكمة (أع3:6) ، كذلك اسطفانوس الشماس وقت رجمه  فشخص إلي السماء وهو ممتلئ من الروح القدس (أع55:7). الإمتلاء من الروح القدس قد يحدث أكثر من مرة فهو قابل للتكرار في كنيسة العهد الجديد ، كما حدث مع معلمنا بطرس الرسول (أع4:2 ، أع8:4 ) ، ومع الشماس اسطفانوس(أع5:6 ، أع55:7) وكذلك معلمنا بولس الرسول (أع17:9 ، أع 9:13) . ونحن مطالبون بالإمتلاء من الروح القدس كقول معلمنا بولس الرسول "امتلئوا من الروح القدس " (أف18:5) ، لأنه يهبنا القوة والحكمة والفهم والمعرفة .                                                           

3-    سكني الروح القدس في الرسل الاثني عشر وكل المجتمعين معهم في العلية حدث يوم الخمسين (أع 13:1-14)  . في عهد الرسل هذه السكني كانت تتم بعد عماد المؤمن ووضع ايدي أحد الرسل عليه . في عام 33 ميلادية قام الرسل بصنع الميرون المقدس الذي بواسطته ’يرشم المعمد 36 رشمة لنوال الروح القدس ، وبهذه المسحة يسكن فيه الروح القدس ولا يمكن أن يفارقه أبدا ، لأن هذه المسحة ثابتة في كل المؤمنين إلي يوم الفداء " إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنا فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيحي أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم " (رو11:8) ، كما أن العماد والمسحة بالميرون المقدس تكون مرة واحدة لا تتكرر . أما بالنسبة لربنا يسوع المسيح فقد حل عليه الروح القدس  وسكن فيه وكان ممتلئا من الروح القدس علي الدوام. 

4-     لبس روح الرب هو تعبير لاهوتي يوضح أن من لبس روح الرب يحل الروح القدس عليه ، ويسيطر علي أفعاله وكل تصرفاته  ويقوده الروح القدس في العمل الذي كلف به من قيل الرب كما هو مكتوب " ولبس روح الله زكريا بن يهوياداع الكاهن فوقف فوق الشعب وقال لهم هكذا يقول الله لماذا تتعدون وصايا الرب فلا تفلحون . لأنكم تركتم الرب قد ترككم " (2أخ 20:24) ، كما " لبس روح الرب جدعون فضرب بالبوق فاجتمع أبيعزر وراءه . .... " (قض 34:6) . وقد امتحن جدعون الرب مرتين قبل محاربته جيش المديانين وانتصر بثلاث مئة رجل فقط .

                       







الـبـــاب الـخـامـــس

عـمـــل الـروح الـقـدس في الأسـرار الكـنسيـة



    الأسرار الكنسية هي نعم إلاهية مجانية غير منظوره توهب لنا من الرب بواسطة الروح القدس بطقوس منظورة  ، ويقوم بهذه الطقوس المنظورة الكاهن أو الاسقف أو رئيس الأساقفة منفردين أو مجتمعين ويعاونهم بعض الشمامسة ، وهي سبعة أسرار كنسية تسلمها آبائنا الرسل من السيد المسيح ومارسوها وقاموا بتسليمها لخلفائهم وقد وصلت الينا بالتسليم. وهذه الأسرار الكنسية هي:-

  السر الأول هو سر المعمودية ، والسر الثاني هو سر الميرون المقدس ، والسر الثالث هو سر التوبة والاعتراف ،  والسر الرابع هو سر الافخارستيا أو سر التناول من الأسرار المقدسة ، والسر الخامس هو سر مسحة المرضي ، والسر السادس هو سر الزواج، والسر السابع هو سر الكهنوت .                                                                              

ونظرا لأننا في الجسد فإننا نحتاج لأشياء أو طقوس ملموسة ، ففي خلال خدمة المسيح له المجد كانت تتم كل النعم الإلهية الغير منظوره بالمسيح ، بواسطة مواد محسوسة وطقوس منظورة ، ولذلك نجد أن ربنا يسوع المسيح قام بوضع الطين علي عيني الأعمي وأمره أن يذهب ليغتسل في بركة سلوام فمضي واغتسل وأتي مبصرا (يو6:9-7) ، كما أن الرب وضع أصابعه في أذني الأصم الأعقد وتفل ولمس لسانه " ووضع نظره نحو السماء وأنّ وقال له إفثا أي انفتح . وللوقت انفتحت أذناه وانحل رباط لسانه وتكلم مستقيما " (مر 32:7-35) .

وفي أيامنا هذه  في سر العماد يستخدم الماء المضاف اليه بعض نقط من الميرون المقدس علي ثلاث دفعات مع الصلوات كمادة منظورة لنوال الميلاد الثاني الغير منظور.

وفي سرمسحة الميرون المقدس يستخدم زيت الميرون المقدس كمادة منظورة لنوال حلول وسكني الروح القدس الغير منظورة في المعمد .

وفي سر التوبة والاعتراف يكون وضع صليب رجال الكهنوت علي رأس المعترف أثناء صلاة التحليل هو المادة المنظورة لسر غفران الخطايا الغير منظور.

وفي سر الافخارستيا تكون قربانة الحمل بالصنية والكأس وبداخله الخمر الممزوج بالماء علي المذبح كمواد منظورة تتقدس بحلول الروح القدس عليها أثناء صلاة القداس الالهي وتتحول إلي جسد ودم حقيقي للرب كعطية مجانية غير منظورة واهبة للحياة في قداسة كقول الرب " من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه . كما أرسلني الآب الحي وأنا حي بالآب فمن يأكلني فهو يحيا بي . هذا هو الخبز الذي نزل من السماء .  ...  من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلي الأبد " (يو56:6-58) .

وفي سر مسحة المرضي يستخدم الزيت وبه عدد سبع فتايل ترتب علي شكل صليب ، مع قراءة بعض الصلوات كطقوس منظوره ، وبعد الإنتهاء من الصلوات والطقوس يأخذ الكاهن من الزيت ويدهن به المريض طالبا له الشفاء ، وحسب مشيئة الله وإيمان الشخص يتمم الله له الشفاء كقول معلمنا يعقوب "أمريض أحد بينكم فليدع شيوخ الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب . وصلوة الإيمان تشفي المريض والرب يقيمه وإن كان قد فعل خطية تغفر له " (يع14:5-15) .

وفي سر الزواج الذي فيه يوحد الروح القدس الزوجين ليكونا جسدا واحدا وهو سر غير منظور " من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحدا . هذا السر عظيم ولكني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة " (أف 31:5-32) ، ولذلك يضع الكاهن التاج أو الإكليل  علي رأس العريس والعروس كمادة منظورة إشارة إلي تاج العفة والطهارة والتقديس ويلبسهما الروب الملوكي  "وجعلنا ملوكا وكهنة لله أبيه له المجد والسلطان إلي أبد الآبدين .آمين" (رؤ6:1) . كما أنه في حالة كان كلا الخطيبين أرمل سبق لهما الزواج فإن الكنيسة تزوجهما بتحليل زواج . كما أن الرتب الكهنوتية (دياكون – ارشدياكون – قس – قمص ) غير مسموح لهم بالزواج مرة ثانية في حالة وفاة زوجته .

وفي سر الكهنوت يكون وضع يد الأسقف أو رئيس الأساقفة علي رأس الشخص المدعو للكهنوت والنفخ في فمه كمادة منظورة لمنح الروح القدس الغير منظور ، للقيام بالأعمال الكهنوتية (أع6:6)  ، وممارسة السلطان الكهنوتي .

 لمزيد من المعلومات عن هذه الأسرار الكنسية انظر كتابنا " الشماسية المباركة " الباب الثاني من صفحة 9 إلي صفحة    17 .





البـــاب الـســـادس

أسـمـــاء الـروح الـقـــدس ومـواهـبــه



    لقد ورد بالكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد العديد من الأسماء والصفات للروح القدس وهي :-                               

أسماء الروح القدس

1-        روح الرب : " ويخرج قضيب من جزع يسي وينبت غصن من أصوله ويحل عليه روح الرب ...                            )    

2-        ... روح الحكمة والفهم ...             )    (إش2:11) .                

3-        ... روح المشورة والقوة  ...          )

4-        ... روح المعرفة ومخافة الرب . "  )

5-         روح الله : " روح الله صنعني ونسمة القدير أحيتني "(أي4:33) .                         

6-        روح السيد الرب : " روح السيد الرب عليّ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي للمأسورين بالإطلاق " (إش1:61) . 

7-        الروح المحي : " فقال لي تنبأ علي هذه العظام وقل لها . أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب . هكذا قال السيد الرب لهذه العظام . هانذا أدخل فيكم روحا فتحيون . وأضع عليكم عصبا وأكسيكم لحما وأبسط عليكم جلدا وأجعل فيكم روحا فتحيون وتعلمون أني أنا الرب " (حز4:37-6) .

8-        روح النعمة والتضرعات: "وأفيض علي بيت داود وعلي سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون إلي الذي طعنوه وينوحون عليه كنائح علي وحيد له ويكونون في مرارة عليه كمن هو في مرارة علي بكره " (زك 10:12) .

9-        روح ابنه : " ثم بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلي قلوبكم صارخا يا أبا الآب " (غل6:4) .

10-    روح المسيح : " الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء . الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم إذ سبق فشهد بالآلام  التي للمسيح والأمجاد التي بعدها "1بط10:1-11) .

11-    المتكلم في الأنبياء والرسل : " فانصرفوا وهم غير متفقين بعضهم مع بعض لما قال بولس كلمة واحدة إنه حسنا كلم الروح القدس آبائنا بإشعياء النبي قائلا إذهب إلي هذا الشعب وقل ستسمعون سمعا ولا تفهمون وستنظرون نظرا ولا تبصرون ." (أع25:28-26) . ايضا " أيها الرجال الإخوة كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا الذي صار دليلا للذين قبضوا علي يسوع" (أع16:1) . كذلك " ومتي قدموكم إلي المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أو بما تحتجون أو بما تقولون . لأن الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوه " (لو11:12-12) .                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                              

12-   روح القداسة : " وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات "( رو4:1) .

13-   المعزي : "وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شئ ويذكركم بكل ما قلته لكم " (يو26:14) .

14-    المعلم : " التي نتكلم بها أيضا لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس قارنين الروحيات بالروحيات " (1كو13:2) .

15-   الشفيع : " وكذلك الروح أيضا يعين ضعفاتنا . لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها " (رو26:8) .

16-     روح قدسه : "ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه فتحول لهم عدوا وهو حاربهم " (إش10:63) .

17-    روح الموعد القدوس : " الذي فيه أيضا أنتم إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم الذي فيه أيضا إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتني لمدح مجده " (أف13:1-14) .

18-    روح المجد : " إن عيرتم باسم المسيح فطوبي لكم لأن روح المجد والله يحل عليكم . "(1بط14:4) .

19-    روح الحق : " وأما متي جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلي جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم " (يو13:16) .

20-   الشاهد : " الروح نفسه أيضا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله " (رو16:8) .  

21-    روح الحكمة والإعلان : " كي يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان في معرفته " (أف17:1) .

22-   روح النبوة :"يقول الله ويكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي علي كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويري شبابكم رؤي ويحلم شيوخكم أحلاما . وعلي عبيدي أيضا وإمائي أسكب من روحي في تلك الأيام فيتنبأون " (أع17:2-18) .

23-   روح التبني : " إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضا للخوف بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب ." (رو15:8) .

24-   الروح القدس معطي الكلمة : " فمتي أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون. لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به . لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم " (مت 19:10-20) .

25-   الروح القدس الداعي للخدمة : " وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس أفرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه " (أع 2:13) .



مـواهــب الـروح الـقــدس

       إن كل المؤمنين الذين نالوا العماد وحصلوا علي عطية وموهبة الروح القدس بمسحة الميرون المقدس أصبحوا هياكل مقدسة ليسكن الروح القدس فيهم وليمكث معهم إلي الأبد .

    والله  يهب المؤمنين الأتقياء بعض المواهب من أجل  خدمة المسيح رأس الكنيسة ، وأيضا من أجل خدمة الكنيسة المجاهدة علي الأرض التي هي جسده .      

    الكتاب المقدس يوضح لنا أن الأقانيم الثلاثة الآب والإبن والروح القدس يشتركون في منح هذه المواهب للمؤمنين الأتقياء ، فيكون منح المواهب بالروح القدس " هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسما لكل واحد بمفرده كما يشاء " (1كو 11:12) ، وممارسة المواهب يكون بسلطان الإبن ربنا يسوع المسيح ، فالجارية التي بها روح عرافة " اتبعت بولس وأيانا وصرخت قائلة هؤلاء الناس هم عبيد الله العلي الذين ينادون لكم بطريق الخلاص . وكانت تفعل هذا أياما كثيرة . فضجر بولس والتفت إلي الروح وقال أنا آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها . فخرج في تلك الساعة " (أع 17:16-18) ، والقيام بالعمل يتم بقوة الآب " لأن الله هو العامل فينا أن نريد وأن نعمل من أجل المسرة " (في 13:2) ، وبذلك " يكون فضل القوة لله لا منا " (2كو7:4) . معلمنا القديس بولس الرسول يلخص كل ذلك فيقول " فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد ، وأنواع خِدم موجودة ولكن الرب واحد ، وأنواع أعمال  موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل . " (1كو 4:12) ، فلكل إقنوم من الأقانيم الثلاثة دور في منح المواهب لأعضاء الجسد الواحد ، أعضاء جسد الكنيسة المجاهدة علي الأرض التي رأسها المسيح .

    المواهب الممنوحة من الله الآب كما سجلها لنا معلمنا القديس بولس الرسول في رسالته إلي أهل روميه الاصحاح الثاني عشره ، وهي سبعة مواهب كما هو مكتوب "ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا . أنبوة فبالنسبة إلي الإيمان . أم خدمة ففي الخدمة . أم المعلم ففي التعليم . أم الواعظ ففي الوعظ . المعطي فبسخاء . المدبر فبإجتهاد . الراحم فبسرور. " (رو6:12-8) . والمواهب الممنوحة من الله الإبن المذكورة في رسالة معلمنا بولس الرسول إلي أهل أفسس الاصحاح الرابع ، وهي خمسة مواهب " وهو أعطي البعض أن يكونوا رسلا والبعض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رعاة ومعلمين . لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح" (أف11:4-12) . وأيضا المواهب الممنوحة من الله الروح القدس المذكورة في الرسالة الأولي لمعلمنا القديس بولس الرسول إلي أهل كورنثوس الاصحاح الثاني عشرة ، وهي تسعة مواهب " فإنه لواحد يعطي بالروح كلام حكمة . ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد . ولآخر إيمان بالروح الواحد . ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد . ولآخر عمل قوات ولآخر نبوة ولآخر تمييز الأرواح . ولآخر أنواع ألسنة . ولآخر ترجمة ألسنة ." ( 1كو8:12-10) . وجميع هذه المواهب ممنوحة من الله المثلث الأقانيم ، وهي دائما تكون لبنيان المؤمنين ومنفعتهم الروحية وهدفها هو إظهار مجد الله .

        الروح القدس أيضا هو واهب ومانح القداسة ، ولذلك سمي بروح القداسة (رو4:1) ، وفي ذلك يوضح معلمنا القديس بولس الرسول اهمية القداسة فيقول "اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يري أحد الرب "(عب 14:12) .

    الروح القدس يمنح الميلاد الثاني في سر المعمودية ، كقول الرب لنيقوديموس    "الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله"  (يو5:3) . أيضا " ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحساناته لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضي رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبه بغني علينا بيسوع المسيح مخلصنا " (تي4:3-6) ، لكي نسلك في الحياة الجديدة "عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه ... "(رو6:6) ، " لأننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته . فدفنا معه بالمعمودية للموت حتي كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضا في جدة الحيوة " (رو3:6-4) .

    الروح القدس هو واهب ومعطي العزاء ولذلك سمي "المعزي " كقول الرب للتلاميذ " ومتي جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الإبتداء " (يو26:15-27).

    وتنقسم هذه المواهب إلي نوعين :-

1-    مواهب مؤقتة ضرورية في تأسيس الكنيسة المجاهدة علي الأرض ، وهي موهبتي النبوة والرسولية  كقول معلمنا بولس الرسول " مبنيين علي أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية " (أف20:2) . فهؤلاء الرسل والأنبياء وضعوا الأساس ونشروا الإيمان بربنا يسوع المسيح ، لأن الوحي الإلهي كان يمليهم ويوحي إليهم بما يقولونه أو ما يكتبونه في أسفار الكتاب المقدس  بعهديه وكان يصونهم من الخطأ ، كما هو مكتوب " لأنه لم تأتي نبوة قط بمشيئة إنسان ، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح الفدس" (2بط21:1) .  كذلك مواهب عمل آيات ومعجزات من التكلم بألسنة وترجمة الألسنة واقامة الموتي . وهذه المواهب لم يعد لها وجود بنهاية العصر الرسولي ، إلا أن موهبة شفاء المرضي وإخراج الأرواح النجسة كان لازما وضروريا في هذه  الفترة ، لتثبيت الإنجيل البشارة المفرحة كما هو مكتوب " أما هم فخرجوا وكرزوا  في كل مكان والرب يعمل معهم ويثبت الكلام بالآيات التابعة " (مر20:16) ، كذلك قول معلمنا القديس بولس الرسول " كيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصا هذا مقداره قد ابتدأ الرب بالتكلم به ثم تثبت لنا من الذين سمعوا شاهدا الله معهم بآيات وعجائب وقوات متنوعة ومواهب الروح القدس حسب إرادته " (عب3:2-4) .  

2-    مواهب دائمة وملازمة لكنيسة العهد الجديد علي مر الأجيال التالية ، مثل الحكمة والوعظ والإرشاد والتبشير والتعليم والتدبير وعمل الرحمة والعطاء  وعمل معجزات شفاء المرضي وإخراج الأرواح النجسة.

    كل هذه المواهب سواء كانت مؤقتة أو دائمة تعطي للأفراد بالروح القدس المنبثق من الآب والمرسل من الإبن ، فالأقانيم الثلاثة تشترك معا في منح المواهب لأن " الله هو العامل فينا أن نريد وأن نعمل من أجل المسرة"(في13:2) ، "ليكون فضل القوة لله لا منا "(2كو 7:4) .

    الروح القدس هو معطي ومانح جميع المواهب والمعجزات الفائقة لقوانين الطبيعة ، وجميع القوات والعجائب تتم بقوة الروح القدس وليست بقوة بشرية ( 1كو4:12-11) . ولذلك قال الرب للتلاميذ قبل صعوده للسموات " لكنكم ستنالون قوة متي حل الروح القدس عليكم وحينئذ تكونون لي شهودا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلي أقصي الأرض " (أعأع8:1) . وهذه المواهب هي للمنفعة الروحية العامة من أجل بنيان جسد الكنيسة التي رأسها المسيح كقول معلمنا بولس الرسول " يعطي إظهار الروح للمنفعة ")1كو7:12) ، و"لأجل تكميل القديسين ، لعمل الخدمة ، لبنيان جسد المسيح إلي أن ننتهي جميعا إلي وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله . إلي إنسان كامل إلي قياس قامة ملء المسيح " (أف12:4-13) . فالرسل جالوا مبشرين وكارزين بالكلمة وبالمسيح وإياه مصلوبا ، وكان الروح القدس يعطيهم الكلمة عند انفتاح الفم ، كقول الرب للتلاميذ " لأن لستم أنتم المتكلمين ، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم " (مت 20:10) ، وكذلك يعطي السامعين تأثرا ونخسا في قلوبهم ، حتي أنه بعظة واحدة لمعلمنا القديس بطرس نحو ثلاثة آلاف نفس قبلوا كلامه بفرح واعتمدوا (أع41:2) . أيضا كقول الرب لزربابل  " لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود" (زك6:4) .

   





الـبـــاب الـســـابـع

ثـمـــر الـروح الـقـدس



    ثمر الروح القدس في أولاد الله الأتقياء يكون دائما ظاهرا في طابع حياتهم اليومية ، ويكونون مشابهين ومتمثلين بربنا يسوع المسيح الكامل في كل شئ ، والواهب كل شئ نافع ومفيد لحياتنا الروحية ، كقول معلمنا بولس الرسول " لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكرا بين إخوة كثيرين ." (رو29:8) . ومن دقة الوحي الإلهي أن ذكر في رسالة معلمنا بولس الرسول إلي أهل غلاطية  " ثمر الروح القدس " في صورة المفرد ،  وليس " ثمرات أو ثمار الروح القدس " في صورة الجمع مع أنهم تسعة فضائل ، وذلك لأن كل فضيلة من هذه الفضائل التسعة مصدرها هو الروح القدس الواحد فتكون كقلادة واحدة بها تسعة أحجار كريمة أو تسعة لألئ ثمينة، يقتنيها ويتقلدها كل مؤمن حقيقي  .  هذا الثمر كما هو مكتوب " وأما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفف " (غلا 22:5-23) . هذا الثمر مكون من ثلاث ثلاثيات ، الثلاثية الأولي "محبة فرح سلام" وهي فضائل تكون ممنوحة من الله بواسطة الروح القدس وناتجة عن الارتباط الوثيق بالله كقول معلمنا بولس الرسول "لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطي لنا " (رو5:5) ، وقد أورد معلمنا بولس الرسول في رسالته الأولي إلي أهل كورنثوس اصحاحا كاملا عن المحبة ، هو الأصحاح الثالث عشر ، يعتبر نبراسا لحياتنا الروحية ولحياة كل مؤمن يريد أن يعيش بالتقوي في المسيح يسوع ربنا .  والثلاثية الثانية  "طول أناة لطف صلاح "هي فضائل تظهر في المعاملات مع الآخرين ، أي الثمر نحو الآخرين المحيطين به ، والثلاثية الثالثة " إيمان وداعة تعفف" وهي فضائل داخلية أو ثمر داخلي يظهر من خلال الانقياد بالروح القدس والشركة معه ليكون الروح القدس هو العامل فينا ، في ذلك يقول معلمنا بولس الرسول عن الإيمان " ... . ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس " (1كو 3:12) .

       ولقد كان من أهم أسباب إرسال ربنا يسوع المسيح الروح القدس المنبثق من الآب، بعد قيامته وصعوده إلي السماء ، هو منحنا قوة الروح القدس لكي يستطيع الإنسان التغلب علي طبيعته العتيقة والانتصار علي شهوات الجسد ، لأن الإنسان بولادته الجديدة من الماء والروح لا بد أن يكره الخطية ويحب البر، وبقوة الروح القدس الساكن فيه يستطيع أن يميت أعمال الجسد ، وأيضا لكي  يمنحنا ثمر الروح القدس وكذلك بعض  مواهبه لكي يجعلنا مشابهين صورته ، عالمين أننا عندما نراه كما هو (في مجيئه الثاني) نكون مثله ويتصور المسيح فينا . ونظرا لأننا أعضاء في جسد المسيح وأغصان في الكرمة (يو4:15-5) فلابد لهذه الأغصان أن تثمر وتأتي بثمر جيد كقول ربنا يسوع المسيح "من ثمارهم تعرفونهم "(مت20:7) .

     معلمنا بولس الرسول في رسالته إلي أهل أفسس الأصحاح الخامس يقدم لنا الإرشاد الروحي فيقول " لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح . مكلمين بعضكم بعضا بمزامير وتسابيح وأغاني روحية مترنمين في قلوبكم للرب . شاكرين كل حين علي كل شئ في اسم ربنا يسوع المسيح لله الآب " (أف 18:5-20) . لذلك وجب علينا أن ’نعد أنفسنا لنكون مستأهلين للإمتلاء من الروح القدس بأن’نخضع أنفسنا وإرادتنا للرب ولعمل الروح القدس الساكن فينا تاركين إنشغالنا بكل الأمور العالمية،"لأن كل ما في العالم هو شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم " (1يو16:2 ). أيضا "لأن اهتمام الجسد هو موت ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام . لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله " (رو6:8-7) .  عالمين  أن    " ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت " (رو2:8) .

    الروح القدس إقنوم إلهي لا يعطي لنا بكيل ، ولكنه يوهب لنا بحسب إمكانيات كل مؤمن ، ففي أوقات كثيرة نكون مشغولين بإهتمامات عالمية وبالتالي لا يكون هناك مكانا في داخلنا لكي نمتلئ من الروح القدس تماما. وليس الإمتلاء من الروح القدس معناه أن نأخذ المزيد من الروح القدس ولكن معناه أن الروح القدس هو الذي يأخذ المزيد منا ، بل ويمتلكنا ويمتلك إرادتنا وكل حواسنا وكل أفكارنا وكل أفئدتنا لنكون مخصصين بالكامل لربنا يسوع المسيح وفي هذه الحالة نكون مملؤيين بالروح القدس ، مشابهين ، مع الفارق الكبير ، لربنا يسوع المسيح الذي كان دائما ممتلئا من الروح القدس في كل الأوقات  ، في حين أن الإمتلاء من الروح القدس بالنسبة للمؤمنين متكرر وليس دائم . فمعلمنا بولس الرسول عندما عمده حنانيا امتلأ من الروح القدس (أع 17:9) ، وفي رحلته الكرازية الأولي هو وبرنابا إلي قبرص ،  قاومه عليم الساحر عندما كان يبشر الوالي ،" فامتلأ من الروح القدس وشخص إليه وقال أيها الممتلئ كل غش وكل خبث يا ابن إبليس يا عدو كل بر ألا تزال تفسد سبل الله المستقيمة . فالآن هوذا يد الرب عليك فتكون أعمي لا تبصر الشمس إلي حين . ففي الحال سقط عليه ضباب وظلمة فجعل يدور ملتمسا من يقوده بيده ." (أع9:13-11) .

        من علامات الإمتلاء من الروح القدس الفرح الدائم ، والسلام الذي يملأ المؤمن مع الشكر علي كل حال وفي كل حال ومن أجل كل حال والصلوات المستمرة وقراءة كلمة الله ، وانشغال كل تفكيره وكل أحاسيسه بالمسيح فيكون إنسانا مسبيا نحو الله بالترنم بصوت مسموع ممجدا الله ، أو بالهزيز وهو الترنم من القلب بصوت خافت غير ’مفسر.

    معلمنا بولس الرسول يقدم لنا الإرشاد الروحي فيقول " افرحوا كل حين . صلوا بلا انقطاع. اشكروا في كل شئ . لأن هذه هي مشيئة الله في المسيح يسوع من جهتكم . لا تطفئوا الروح . " (1تس16:5-19) . الروح القدس يعمل في المؤمنين ويجعل أرواحهم ملتهبة فيهم نحو الله ، إلا انه لا يلغي حريتهم الشخصية في أن يظلوا ملتهبين بالروح أو يطفئونها . كذلك فإن الروح القدس الساكن فينا دائما يحثنا علي فعل الخير والأعمال الصالحة ويقوم بإرشادنا إليها ، ولكنه في نفس الوقت لا يرغم أحدا للقيام بعمل الخير . المؤمنين الملتهبون روحيا يكونون عادة مملؤين محبة نحو الله ، ونحو أولاد الله ، يمدون لهم في كل وقت العون والمساعدة بقدر استطاعتهم .

    أما الفتور الروحي للمؤمن فيكون سببه هو النقص في الإلتهاب الروحي نتيجة تجربة معينة ، هذا ما يقوله الروح لملاك كنيسة اللاودكيين " لأنك فاتر ولست باردا ولا حارا أنا مزمع أن أتقيأك من فمي " (رؤ16:3) ، في حين أن البرودة الروحية يكون سببها هو انطفاء الروح نتيجة رفض إشراك الروح القدس في العمل معه وتوجيه ارادته ، ويكون ذلك فرصة سانحة لعمل الشيطان وتوجيهه للسقوط في الخطية ، وهناك أسباب كثيرة لذلك :-

1-       المعاشرات الردية  والأجواء الشريرة هي التي تقود إلي إنطفاء الروح ،  كما هو مكتوب " لا تضلوا فإن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة ." (1كو33:15) . كذلك كثرة الإنغماس فيها يؤدي إلي ضعف الإيمان أيضا ، مثل ما حدث مع شمشون الجبار الذي " باركه الرب . وابتدأ روح الرب يحركه في محلة دان بين صرعة وأشتاول " (قض24:13-25) . " وكان بعد ذلك أنه أحب امرأة في وادي سورق اسمها دليلة " (قض4:16) ، كانت سببا في كسر نذرة بمعاشرته إياها والتي خانته للفلسطينين عندما أباح لها بسر قوته كما هو مكتوب " فكشف لها كل قلبه وقال لها لم يعل’ موسي رأسي لأني نذير الله من بطن أمي . فإن ’حلقت تفارقني قوتي وأضعف وأصير كأحد الناس ." (قض 17:16) ، فأذلته بحلق سبع خصل رأسه ، وفارقته قوته ، مما أدي إلي إنطفاء الروح داخله وفارقه الرب (قض19:16-20) .

كذلك سليمان الحكيم والملك الذي كان أحكم حكماء زمانه ولم يكن هناك حكيم مثله من قبل ولا من بعد ، الذي تراءي له الرب مرة في جبعون (1مل5:3) ومرة في أورشليم (1مل 12:8 )، أمالت نساؤه الأجنبيات قلبه وراء آلهة أخري (1مل1:11-4) ، وأصابه فتور روحي ، لذلك عاقبه الرب إله إسرائيل إذ قال " هأنذا أمزق المملكة من يد سليمان وأعطيك (يربعام) عشرة أسباط . ويكون له (سليمان) سبط واحد من أجل داود عبدي ومن أجل أورشليم المدينة التي اخترتها من كل أسباط إسرائيل . لأنهم تركوني وسجدوا لعشتروت إلاهة الصيدونيين ولكموش إله الموآبيين ولملكوم إله بني عمون ولم يسلكوا في طرقي ليعملوا المستقيم في عيني وفرائضي وأحكامي كداود أبيه . ولا آخذ كل المملكة من يده بل أصيره رئيسا كل أيام حياته لأجل داود عبدي الذي اخترته الذي حفظ وصاياي وفرائضي . وآخذ المملكة من يد إبنه  (رحبعام)." (1مل 31:11-35) .

2-  أيضا مما يؤدي إلي إنطفاء الروح الثرثرة وكثرة الكلام وأنتقاد الآخرين بكلام غير روحي وغير بناء علي سبيل الفكاهة والمزاح بدون انضباط مع إدانة الآخرين ، ذلك يشتت الفكر ويشغله بعيدا عن الاهتمام بالحياة الأبدية ، لأن " كثرة الكلام لا تخلو من معصية " (أم 19:10) . ومعلمنا داود النبي والملك يترنم ويقول " طوبي للرجل الذي لم يسلك في مشورة المنافقين وفي طريق الخطاة لم يقف وفي مجلس المستهزئين لم يجلس . لكن في ناموس الرب إرادته وفي ناموسه يلهج نهارا وليلا " ( مز1:1-2) .

3-                      الكسل والتراخي في الصلاة أو قراءة الكتاب المقدس يوميا يؤدي إلي الفتور الروحي  ، فلا تؤجل ذلك ولا تدع نفسك تلتمس الأعذار لأن علاج الكسل هو أن تغصب نفسك علي القيام بالعمل الروحي الذي كنت تنوي عمله ، فإذا أردت الصلاه أو قرآة الكتاب المقدس أو القيام بأي عمل روحي فلا تتراخي أو تؤجل لأن ذلك يعطي فرصة سانحة للشيطان ليغريك علي التهاون واللامبالاه أكثر في حياتك الروحية ، ويبدأ بمحاربتك بالآفكار الخاطئة ، علي الفور اطرد هذه الأفكار واطلب من الله ان يعينك مرددا الصلاة السهمية " ارحمني يا ربي يسوع المسيح واغفر لي كل خطاياي وكل كسلي " . فالإنسان الحار بالروح يحول حتي الأشياء السلبيات إلي إيجابيات بمشاركتة الروح القدس الساكن فيه. ومعلمنا سليمان الحكيم والملك يقول "طريق الكسلان كسياج من شوك وطريق المستقيمين منهج " (أم 19:15) . أيضا معلمنا القديس بولس الرسول يقول عن الأمم الذين ابتعدوا عن طريق الله " إذ هم مظلّموا الفكر ومتجنبون عن حياة الله لسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم " (أف18:4) ، فالجهل وعدم معرفة كلمة الله يؤدي إلي الفتور الروحي والإبتعاد عن الله ويسبب غلاظة قلوبهم ، لأن الروح القدس هو الذي ينير العقل ويفتح البصر والبصيرة الروحية لأنه " روح المعرفة ومخافة الرب " (إش2:11) . ونظرا لأن " كلمة الله حية وفعالة وأمضي من كل سيف ذي حدين وخارقة إلي مفرق النفس والروح والمفاصل والمخ ومميزة أفكار القلب ونياته " (عب12:4) ، ولذلك سميت كلمة الله ب "سيف الروح" (أف 17:6). وقد أوضح الرب للتلاميذ ولنا " إنه خير لكم أن أنطلق . لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي . ولكن إن ذهبت أرسله إليكم . ومتي جاء ذاك يبكت العالم علي خطية وعلي بر وعلي دينونة ." (يو7:16-8).

4-                      من أخطر الخطايا التي قد يقع فيها إنسان نتيجة البرودة الروحية هي خطية التجديف علي الروح القدس ، لأنها خطية بلا غفران ، كقول الرب " كل خطية وتجديف يغفر للناس . وأما التجديف علي الروح فلن يغفر للناس . ومن قال كلمة علي ابن الإنسان يغفر له . وأما من قال علي الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي " (مت 31:12-32) .

    ليس التجديف علي الروح القدس هو عدم الإعتراف بوجوده أو عدم الإعتراف بلاهوته أو عدم الإيمان بعمله في الروح الإنسانية  ، لأن بعض الهراطقة الذين انقادوا وراء هرطقة مقدونيوس في القرن الرابع الميلادي  والتي كانت تنكر لاهوت الروح القدس ، قبلتهم الكنيسة واحتضنتهم عندما ندموا وعادوا وتابوا ورجعوا إلي الإيمان القويم . ولكن التجديف علي الروح القدس هو أن يعيش الإنسان في خطاياه وآثامه طول أيام حياته علي الأرض ، رافضا تأنيب الضمير وتبكيت الروح القدس في قلبه وعقله ليتوب ويرجع ، ولكن الله من محبته للإنسان يظل فاتحا أحضانه لقبول أي خاطئ حتي اللحظات الأخيرة من حياته ، فإذا ندم وتاب ورجع واعترف بخطاياه وتناول من الأسرار المقدسة قبل مفارقة روحه لجسده بلحظات ، قبل الله توبته ، ولكن إذا بقي علي عناده وتجديفه ومات فقد أصبح مرفوضا من الله وهلك ، كقول الرب "كلا  أقول لكم . بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون " (لو3:13،5) . واكبر مثل علي ذلك هو اللصين الذين صلبا مع ربنا يسوع المسيح ، فأحدهما وهو "ديماس" تحرك ضميره فيه فندم وتاب وطلب الغفران من الرب قبل موته بثلاث ساعات تقريبا ، فقبل الرب توبته ووعده بأن روحه بعد موته ستكون معه اليوم في الفردوس مكان إنتظار الأبرار، في حين أن اللص الآخر الذي ظل يجدف علي المسيح ولم يستجب لتبكيت ضميره له وكذلك تبكيت زميله ديماس له ، ولم يقدم الندم والتوبة ولم يطلب الغفران من الرب ، كانت نهايته أن روحه بعد موته ذهبت إلي الجحيم مكان إنتظار الأشرار. لأنه لا توجد خطية بلا غفران إلا التي بلا توبة ، ولا توجد نعمة إلي زوال إلا التي بلا شكران . ولذلك صرخ معلمنا داود النبي والملك في المزمور وقال " لا تطرحني من قدام وجهك. وروحك القدوس لا تنزعه مني " (مز11:51) ، لأنه خاف بسبب خطيته مع بثشبع إمرأة حوريا الحثي (2صم 4:11) أن يفارقه روح الرب مثل ما فارق شاول الملك ، كما هو مكتوب "وذهب روح الرب من عند شاول وبغته روح ردئ من قبل الرب " (1صم14:16) . وعندما حزن صموئيل النبي علي شاول لأنه كان ممسوحا من الرب ، " فقال الرب لصموئيل حتي متي تنوح علي شاول وأنا قد رفضته عن أن يملك علي إسرائيل " (1صم 1:16). ليتنا جميعا نردد من كل قلوبنا مع معلمنا داود النبي قائلين " لا تطرحني من قدام وجهك . وروحك القدوس لا تنزعه مني " لأن الإنسان المجدف علي الروح القدس الرافض والمقاوم عمله حتي نهاية حياته مرفوض من الله ، والشيطان يتلقفه ويتسيد عليه ويجعله واحدا من أتباعه.

    علينا ألا نخور ونضعف عندما تحاصرنا التجارب والضيقات ، بل نتعلم من معلمنا داود النبي الذي ترنم في المزمور وقال " ضيق وشدة أصاباني أما وصاياك فهي لذتي" (مز 143:119) ، فلو نظرنا إلي أبائنا الشهداء والقديسين الذين كانت الشدائد والضيقات تحاصرهم من كل جانب ولكن الروح القدس ، الروح المعزي (يو26:14) كان يملأهم تعزية وصبرا وجهادا لأنهم كانوا واضعين أمامهم ملكوت السموات والحياة الأبدية مع الرب يسوع المسيح ، فاستهانوا بالآلام والعذابات ، كذلك أبائنا الرسل كانوا يسجنون ويضربون ويهانون ويقفون أمام ملوك وولاة من أجل الشهادة باسم المسيح ، فالتلاميذ جميعهم استشهدوا ما عدا القديس يوحنا الحبيب الرائي الذي نفي إلي جزيرة بطمس وفيها لقي عذابات نفسية كثيرة وآلامات وضيقات لا حصر لها عندما كانت تصله رسائل عن إضطهاد الكنيسة وشعبها وهو منفيا بعيدا عنها ، وقد أعطاه الله تعزية كبيرة ، لأنه فيها رأي رؤياه وكتبها لنا .







البـــاب الثـــامـن

السلـــوك بالـــروح القـــدس



    لقد اهتم الله بأرواحنا وكذلك بأجسادنا بعد موتنا ، فالروح خالدة لا تموت لأنها نسمة ونفخة من القديركما هو مكتوب " وجبل الر ب الإله آدم ترابا من الأرض . ونفخ في أنفه نسمة حيوة . فصار آدم نفسا حية" (تك7:2) ، والآن في عهد النعمة بمجرد خروج الروح من الجسد فإنها تذهب إلي مكان الإنتظار ، إما في الفردوس بالسماء الثالثة وهي مكان انتظار أرواح الأبرار، وإما في الجحيم مكان انتظار أرواح الأشرار . أما الجسد فترابي وإلي التراب يعود (تك19:3)، كقول داود الملك "فيرجع التراب إلي الأرض كما كان وترجع الروح إلي الله الذي أعطاها " (جا7:12) . هذه الأجساد الترابية في القيامة العامة في المجئ الثاني لربنا يسوع المسيح سوف تقوم عند البوق الأخير بعد أن تكون قد تحللت وصارت ترابا في جوف الأرض ، إن قيامة الأجساد في ذلك اليوم ستكون أكبر معجزة خارقة للطبيعة وقوانينها، هذا بالاضافة إلي مناداة الأرواح من مكان إنتظارها لتتعرف علي أجسادها وتتحد بها فتعود لها الحياة ، وذلك لأن الجسد والروح قد اشتركا معا في كل عمل صالح أوشرير، ولابد أن يقفا أمام المسيح للدينونة ، كما هو مكتوب "لأنه لابد أننا جميعا نظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرا كان أم شرا ." (2كو10:5) . معلمنا بولس الرسول يقول " هوذا سر أقوله لكم . لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير . فإنه سيبوق فيقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغير . لأن هذا الفاسد لا بد أن يلبس عدم فساد وهذا المائت يلبس عدم موت."( 1كو 15: 51-53) . لأنه " صار آدم الأول نفسا حية وآدم الأخير روحا محييا" (1كو45:15) . فبقيامة الرب من بين الأموات بجسد نوراني ممجد ، بقوة لاهوته أنعم لنا بالحياة الأبدية ، وكما قام المسيح فإنه سوف يقوم كل الأموات ويكونون بأجساد عديمة الفساد ،  بقوة لاهوته عند البوق الأخير ، كقول معلمنا بولس الرسول  "عالمين أن الذي أقام الرب يسوع سيقيمنا نحن أيضا بيسوع ويحضرنا معكم " (2كو14:4) .

   معلمنا القديس بولس الرسول يقدم لنا النصح والارشاد فيقول " لأنكم قد اشتريتم بثمن. فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله " (1كو20:6) ، هذا الثمن هو دم ربنا يسوع المسيح المسفوك علي عود الصليب ، لينقذنا من موت الخطية ولذلك يقول معلمنا يوحنا الحبيب "أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين بإسمه " (يو12:1).  لذلك وجب علينا أن نسلك بالروح كما هو مكتوب  "اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد . لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد . وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتي تفعلون ما لا تريدون ." (غلا16:5-17) . من دقة كلمات الوحي الإلهي أنه يقول "اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد" ، وهذا معناه أن الشهوة موجودة في أجسادنا ، ولكن لوانقدنا للروح وسلكنا بالروح القدس الساكن فينا فإننا نصير أبناء الله كقول معلمنا بولس الرسول " لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله" (رو14:8) وسوف يمنحنا القوة والنصرة علي الجسد وشهواته لكي لا نتممها، لأن الروح القدس هو الذي يقدسنا ، كما هو مكتوب " كونوا قديسين لأني أنأ قدوس " (1بط16:1) ، كذلك " وتكونون لي قديسين لأني قدوس أنا الرب . وقد ميزتكم من الشعوب لتكونوا لي" (لاو26:20) . فالقداسة هي هبة وعطية مجانية يهبها الله لكل أولادة الأبرار المؤمنين به والسالكين في مخافته . السلوك بالروح معناه أن الروح القدس يقودني ويرشدني في كل قراراتي وتصرفاتي واتمم مشورة الروح القدس الساكن فيّ ، وتكون نتيجة ذلك نقاوة الفكر و طهارة الجسد وكل الحواس فلا أتمم شهوة الجسد لأن الكتاب يقول " ولكن إذا انقدتم بالروح فلستم تحت الناموس " (غلا 18:5) .

 في العهد القديم " كان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق وليلا في عمود نار ليضئ لهم . لكي يمشوا نهارا وليلا . لم يبرح عمود السحاب نهارا وعمود النار ليلا من أمام الشعب " (خر21:13-22) ، كذلك في العهد الجديد كان الرسل منقادين بالروح القدس ، ففي رحلة معلمنا بولس الرسول التبشيرية الثانية وكان معه سيلا وتيموثاوس" وبعدما اجتازوا في فريجية وكورة غلاطية منعهم الروح القدس أن يتكلموا بالكلمة في آسيا . فلما أتوا إلي ميسيا حاولوا أن يذهبوا إلي بثينية فلم يدعهم الروح . فمروا علي ميسيا وانحدروا إلي ترواس ." (أع6:16-8) .

 وقد  أرسل الرب لنا الروح القدس المنبثق من الآب ليقودنا ويرشدنا في طريق رحلتنا في هذا العالم.  ومعني هذا هو إما أن ننقاد بالروح القدس ونكون حارين في الروح فتكون لنا النصرة علي أعمال الجسد أو لا ننقاد بالروح القدس ونطفئ الروح فننقاد لأعمال الجسد ، لأن من لا يميت الخطية التي في جسده سوف تميته هذه الخطية ، "لأن أجرة الخطية هي موت " (رو23:6)  . الله الذي قال لا تقتل قال لا تزني وقال لا تسرق ... أيضا قال لا تكذب ، وهناك أناس كثيرين يظنون أن خطية الكذب علي سبيل المثال هي أصغر الخطايا ، كما أنهم يعتقدون أنه هناك كذبة بيضاء وكذبة سوداء ، وقد قال أحد الآباء أن خطية الكذب قد تؤدي بإنسان تشهد ضده كذبا إلي الاعدام ، وبذلك تكون قد تسببت في قتل إنسان برئ ، فلا وجود في المسيحية إطلاقا لخطية صغيرة وخطية كبيرة كقول معلمنا يعقوب "لأن من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرما في الكل." (يع10:2).

    كذلك يحضنا معلمنا بولس الرسول علي ألا نحزن الروح القدس ، كما هو مكتوب  "ولا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء " (أف 30:4) . إن ما يحزن الروح القدس هو ارتكاب الخطية وليس وجود الخطية في طبيعتنا البشرية . معلمنا يعقوب أخو الرب يشجعنا علي أن نكون مسرعين في الإستماع مبطئين في التكلم ومبطئين في الغضب  " لأن غضب الإنسان لا يصنع بر الله " (يع20:1) . كذلك يقول "إن كان أحد فيكم يظن أنه دين وهو ليس يلجم لسانه بل يخدع قلبه فديانة هذا باطلة . " (يع26:1)  .

    إن الإنسان الحكيم هو الإنسان السالك في حياة الفضيلة ، ومصدر الفضيلة هوالله بالروح القدس فهو روح الحكمة والفهم والمعرفة الذي ينير الأذهان في معرفة كلمة الله ويهب الحكمة والإفراز . وقد قال معلمنا سليمان الحكيم " فرأيت أن للحكمة منفعة أكثر من الجهل كما أن للنور منفعة أكثر من الظلمة . الحكيم عيناه في رأسه . أما الجاهل فيسلك في الظلام ."(جا 13:2-14) . والإنسان الغير حكيم هو الإنسان الذي يعيش في الخطية لأنه جاهل حتي لو كان حاصلا علي أعلي الدرجات العلمية ومن أكبر علماء العالم ، كما هو مكتوب " الذي يزيد علما يزيد حزنا "(جا 18:1) ، وذلك لأنه جاهل بما تجلبه له الخطية من حرمان من الحياة الأبدية وملكوت السماوات ولا فرق بينه وبين الإنسان الملحد فكلاهما يجدفان علي الروح القدس ، كقول المرنم بالمزمور " قال الجاهل في قلبه ليس إله . فسدوا ورجسوا بأفعالهم . ليس من يعمل صلاحا . " (مز 1:14 ) .  الإنسان الحكيم الذي يسلك في حياة الفضيلة هو إنسان واضح الفكر قوي في الانتصار علي الحروب الخارجية ، والمنازعات الداخلية يستطيع أن يجعل الروح القدس يقوده دائما إلي حياة النصرة وعمل الخير ، وهو إنسان ذو مبادئ وقيم روحية ثابتة لا يمكن أن يحيد عنها حتي ولو هاجت الدنيا ضده وهناك في الكتاب المقدس أمثلة كثيرة لذلك مثل دانيال والفتية الثلاثة و يوسف الصديق الذي رفض أن يفعل الخطية مع إمرأة فوطيفار ، وقال " ... .فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلي الله " (تك 9:39). فقد كان إنسانا طاهرا عفيفا قلبه مملوءا بمخافة الله ، وهكذا فإن اقتناء فضيلة واحدة يقود الإنسان إلي اقتناء فضائل أخري بالجهاد والمثابرة ، وكلها تكون متناغمة ومتكاملة معا لأن مصدرها ربنا يسوع المسيح عن طريق الروح القدس الساكن في الإنسان . والإنسان الحكيم هو الذي يحفظ نفسه جسديا وروحيا ، عقليا وفكريا ، ويحترس من السقوط ، ولنعلم أن "كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران " (يع 17:1) .

    الوداعة مما لا شك فيه هي من أهم الفضائل التي يمكن أن يقتنيها الإنسان كقول الرب في الموعظة علي الجبل " طوبي للودعاء . لأنهم يرثون الأرض " (مت5:5)، والإنسان الوديع هو الذي لا يغضب من أحد ، ولا ’يغضب أحدا ، متمثلا بالرب الذي كان "لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع أحد في الشوارع صوته " (إش2:42) ، ومعلمنا القديس بولس الرسول ينصح بالابتعاد عن محبة المال لأنها أصل لكل الشرور ثم يضيف " وأما أنت يا إنسان الله فاهرب من هذا واتبع البر والتقوي والإيمان والمحبة والصبر والوداعة  "(1تي 11:6)

   





البـــاب الـتـــاســـع

الـخـــاتـمـــة



    الروح القدس هو روح الحق والفهم والمعرفة ، وهو الذي أوحي إلي أنبياء العهد القديم بكل النبوات المكتوبة فيه ، كما أوحي الرسل كتبة أسفار العهد الجديد ، وكان يعطيهم ما يقولونه أو يكتبونه ويصونهم من الخطأ ، كقول معلمنا بولس الرسول " كل الكتاب هو موحي به من الله نافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب   أديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله كاملا متأهبا لكل عمل صالح " (2تي16:3-17) . الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد وحدة واحدة متكاملة  لأنه من نفس المصدر وهو الله بالروح القدس، فهو كلمة الله الموحي بها لخلاصنا ونجاتنا وتعزياتنا في كل ظروف حياتنا علي الأرض لنصل إلي ملكوت الله . هدف الكتاب المقدس هو ربنا يسوع المسيح ورسالة الكتاب المقدس هي بشارة الفداء والخلاص ،  "لأنه لم تأتي نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسين مسوقين من الروح القدس" (2بط 21:1) . ولذلك يأمرنا الرب قائلا " فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية . وهي التي تشهد لي " (يو39:5) .

    ومما يثبت صحة الكتاب المقدس وعدم تحريفه كما يدعي الهراطقة والملحدين والمتشددين والغير فاهمين للديانة المسيحية من بعض الديانات الأخري هو أن اليهودية والمسيحية والإسلام يعترفون بأن الكتاب المقدس هو من الله وأن المسيح هو كلمة الله ، كما أن الكتاب المقدس لم يتعارض علي الاطلاق مع العلم الحديث إذ أنه ’ذكر في سفر إشعياء النبي الذي كتب سنة 700 قبل الميلاد أن الأرض كروية إذ يقول عن الله  "الجالس علي كرة الأرض "(إش22:40) ، وكان الإعتقاد السائد وقتها أن الأرض مسطحة حتي أثبت العلماء وعلي رأسهم جاليليو أن الأرض كروية في القرن السابع عشر الميلادي ، كما أنه’ذكر في الكتاب المقدس أن "الأرض معلقة علي لا شئ" (أي7:26) وذلك بفعل الجاذبية الأرضية وكان الاعتقاد السائد أنها معلقة علي قرني ثور. إن اثار وحفريات العهد القديم التي  تم العثور عليها تثبت بدون أدني شك صحة الكتاب المقدس ، فقد عثر علي صحائف وكتابات آشورية وبابلية تحكي قصة خلق آدم وحواء وطردهم من الجنة متطابقة تماما مع ما ورد بسفر التكوين الأصحاح الثاني ، كما أنه تم العثور علي سفينة نوح علي قمة جبل أراراط في أرمينيا وقد نشرت جريدة "اخبار اليوم" المصرية هذا الخبر علي صفحاتها في 9 حزيران / يونيو عام 1946 م وكانت أوصاف الفلك وأبعاده مطابقة لما جاء في سفر التكوين الأصحاح السادس . 

    وثشهد الاكتشافات الأثرية الحديثة بالعهد الجديد علي صحة الكتاب المقدس فقد تم اكتشاف خشبة الصليب الذي صلب عليه ربنا يسوع المسيح وكذلك الصليبان الآخران الذين صلب عليهما اللصين ، كما اكتشف خطاب من الوالي بيلاطس البنطي إلي الإمبراطور الروماني طيباريوس قيصر بشأن إصرار اليهود علي صلب السيد المسيح مع أنه لم يجد علة واحدة فيه ، وهو محفوظ بمكتبة الفاتيكان بروما . كذلك في سنة 1280 ميلادية تم اكتشاف صورة الحكم الذي نطق به بيلاطس البنطي علي ربنا يسوع المسيح ، وهو موجود الآن بدير الكاوثوزيان بالقرب من نابولي .

    كذلك تشهد أسفار العهد الجديد علي صحة الكتاب المقدس فقد ذكر الكتاب المقدس أنه " صنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون علي وجه الأرض " (أع 26:17) وقد أثبتت الأبحاث العلمية والطبية صحة ذلك ، كما أوضح أن أجساد المخلوقات تختلف من كائن إلي آخر (1كو39:15) ، كما أن ربنا يسوع المسيح مرارا كثيرة إقتبس آيات من العهد القديم في أحاديثه ، أيضا قال" السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول " (لو23:21) ، كذلك " فإني أقول لكم إلي أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتي يكون الكل " (مت18:5) .  ومعلمنا القديس بولس الرسول يقول "لأني لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن لليهودي أولا ثم لليوناني . لأن فيه معلن بر الله بإيمان لإيمان كما هو مكتوب أما البار فبالإيمان يحيا " (رو16:1) .

    المخطوطات التي تم العثور عليها والموجودة بمتاحف مختلفة في جميع أنحاء العالم وآخرها مخطوطات وادي قمران تثبت بدون أدني شك علي أن الكتاب المقدس غير محرف .

     وإنني أقول لهؤلاء المشككين أنه نظرا لأن البشرية الساقطة كانت في حالة يستحيل معها معرفة الله ومعرفة كل أموره ، مع أن الله أظهرها منذ البدء ، كقول معلمنا القديس بولس الرسول  "إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم . لأن أموره غير المنظورة تري منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتي أنهم بلا عذر." (رو 19:1-20) . لأن سر معرفة الله وكل أموره لا تأت بالأبحاث العلمية أوالفضائية أو الفلكية أو بحكمة إنسانية ، لأنها أسمي من مدارك الإنسان ولا يمكن أن تري إلا بالإيمان وقد "أعلنها الله لنا بروحه لأن الروح يفحص كل شئ حتي أعماق الله" (1كو10:2) . فالروح القدس هو الذي يعلنها للمؤمنين لأنها موهوبة لنا كما هو مكتوب  " ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله"  (1كو12:2) . الروح القدس هو روح الحق وروح الفهم وروح المعرفة (إش2:11) ، وكقول رب المجد يسوع "واما متي جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلي جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية . ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم "(يو 13:16) ، ولذلك ترنم المرنم بالمزمور وقال "اكشف عن عينيَ فأري عجائب من شريعتك" (مز18:119) ،" علمني يا رب طريق فرائضك فأحفظها إلي النهاية . فهمني فألاحظ شريعتك وأحفظها بكل قلبي " (مز33:119-34) .

    هناك رموز كثيرة عن الروح القدس بالكتاب المقدس مثل النار التي ترمز لللاهوت كما ترمز للروح القدس وهبوب الريح العاصفة يرمز لحضور الله كما هو مكتوب "ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معا بنفس واحدة . وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين . وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت علي كل واحد منهم . وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخري كما أعطاهم الروح أن ينطقوا " (أع 1:2-4) ، علما بأن ربنا يسوع المسيح سبق أن منحهم الروح القدس للخدمة الكهنوتية وهم في العلية عندما " نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس .من غفرتم خطاياه تغفر له . ومن أمسكتم خطاياه أمسكت" (يو22:20-23) . وكما هو مكتوب فإن " الهنا نار آكلة " (عب29:12) ،  وهذا ما يوضحه لنا العهد القديم إذ ذكر أنه    " حل مجد الرب علي جبل سيناء وغطاه السحاب ستة أيام . وفي اليوم السابع ’دعي موسي من وسط السحاب . وكان منظر مجد الرب كنار آكلة علي رأس الجبل أمام عيون بني إسرائيل " (خر16:24-17) . كذلك كلم الرب موسي من العليقة بجبل حوريب" وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة. فنظر واذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق " (خر2:3) ثم أمره " اخلع حذاءك من رجليك . لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة . ثم قال أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب ."(خر5:3-6) ، وفي هذا إشارة إلي اللاهوت . وقد أمر الرب موسي بصناعة سبع سرج  من ذهب نقي في خيمة الإجتماع " وانت تأمر بني اسرائيل أن يقدموا إليك زيت زيتون مرضوض نقيا للضوء لإصعاد السرج دائما " (خر20:27) ، فالزيت بالسرج وكذلك النار التي توقد السرج يرمزان إلي الروح القدس. أيضا نجد في العهد القديم أن النار كانت تأكل الذبائح والمحرقات دليلا علي قبولها ، والنار هنا ترمز للعدل الإلهي ، ونجد أن معلمنا إيليا النبي بينما كان يسير ويتكلم مع أليشع النبي " إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلي السماء" (2مل11:2) ، هذه المركبة من نار والخيل من نار ما هي إلا الملائكة المحيطة بالله كما ترنم المرنم بالمزمور وقال " الصانع ملائكته رياحا وخدامه نارا ملتهبة " (مز 4:104). وبالمثل فان إضاءة شمعتين أمام الإنجيل عند قراءته أثناء القداس الإلهي يرمز إلي أن كلمة الله تنير قلوبنا وأرواحنا وعقولنا بالروح القدس الذي يعطينا الإستنارة الروحية ويذكرنا بكل ما قاله الرب لنا أثناء حياته علي هذه الأرض وقبل صعوده إلي السماء ، كذلك تشير إلي كلمة الله في حرارتها وفاعليتها في النفوس كما هو مكتوب " أليست هكذا كلمتي كنار يقول الرب وكمطرقة تحطم الصخر" (إر29:23) .

    الماء أيضا يرمز للروح القدس كقول الرب " من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي . قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنين به مزمعين أن يقبلوه .لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد . لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد"( يو 38:7-39).

    الحمامة أيضا ترمز للروح القدس ، كما هو مكتوب " فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء . وإذا السموات قد انفتحت له فرأي روح الله نازلا مثل حمامة وآتيا عليه . وصوت من السموات قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت " (مت16:3-17) . وهذا المشهد هو ما يسمي بالظهور الإلهي، لأن فيه ظهرت الأقانيم الثلاثة ، الابن صاعدا من ماء المعمودية والروح القدس نازلا مثل حمامة وآتيا  عليه من السموات التي انفتحت ، وصوت الآب من السموات يقول عن المسيح هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت .ولذلك فإن الكنيسة تحتفل بهذا اليوم المجيد وتعيد فيه وتقيم الصلوات وتسميه بعيد الغطاس  .

    الإمتلاء بالروح القدس يحدث للمؤمنين الأبرار السالكين بالروح حسب وصايا الله من أجل القيام بعمل معين من قبل الله ، أو للقيام بخدمة معينة من الله في كنيسته المجيدة المجاهدة حسب الموهبة المعطاة لهم لإظهار مجد الله أولا وكذلك للمنفعة العامة للمؤمنين. وهذا الإمتلاء من الروح القدس لا يحدث بناء علي طلب الإنسان له ، ولكنه يوهب لرجال الله الأتقياء  والمؤمنين الأبرار الذين جعل الله الأبدية في قلبهم (جا11:3)، لأن مجد المسيح ولاهوته سوف يستعلن في الأبدية . الإمتلاء من الروح القدس غير دائم ولكنه متكرر الحدوث وهو هبة وعطية مجانية من الله لمختاريه .

 يحدثنا الكتاب المقدس عن أمور هامة خاصة بالروح القدس وهي :- 

1-    تنبأ يوئيل النبي عن انسكاب الروح القدس علي شعبه فقال " ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي علي كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاما ويري شبابكم رؤي. وعلي العبيد أيضا وعلي الإماء أسكب روحي في تلك الأيام " (يوئ 28:2-29) . ويتضح من هذه النبوة أن عطية الروح القدس التي كانت تحل في العهد القديم علي الملوك والأنبياء والرسل فيتنبأون ، سوف تحل فيما بعد علي كل المؤمنين ، كما أن نبوة حزقيال النبي تحدثت أيضا عن سكب الروح القدس " ولا أحجب وجهي عنهم بعد. لأني سكبت روحي علي بيت إسرائيل يقول السيد الرب "(حز29:39)، لكي يكون شعب الله في حالة الاستعداد ، وهذا السكيب للروح القدس متاح لكل من يدعو بإسم الرب (يوئ32:2) ، وقد اقتبسها معلمنا القديس بطرس في (أع 17:2- 21) ، وقد تمت هذه النبوة في يوم الخمسين وهو ما يعرف بعيد البنتكوستي . إن الهدف من إنسكاب الروح القدس هو خلاص البشرية كقوله " ويكون كل من يدعو باسم الرب يخلص"(أع 21:2) ، أيضا قوله "توبوا وليعتمد كل واحد منكم علي اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس."(أع 38:2) .

2-    أوصي الرب يسوع المسيح قبل صعوده للسماء الرسل الذين اختارهم  بأن " لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني لأن يوحنا عمد بالماء وأما أنتم  فستعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير " (أع4:1-5) .

3-     كما كانت عطية الروح القدس لأهل الختان  ، كما هو مكتوب " ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معا بنفس واحدة. وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين . وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت علي كل واحد منهم . وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخري كما أعطاهم الروح أن ينطقوا " (أع 1:2-4) .

4-    كذلك عطية الروح القدس للمؤمنين من أهل السامرة  الذين بشرهم فيلبس الرسول "ولما سمع الرسل الذين في أورشليم أن السامرة قد قبلت كلمة الله أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا. الذين لما نزلا صليا لأجلهم لكي يقبلوا الروح القدس . لأنه لم يكن قد حل بعد علي أحد منهم . غير أنهم كانوا معتمدين بإسم الرب يسوع . حينئذ وضعا الأيادي عليهم فقبلوا الروح القدس ."( أع14:8-17) .

5-    أيضا عطية الروح القدس لباكورة الأمم لرجل اسمه كرنيليوس الأممي قائد مئة بالجيش الروماني ، وقد كان رجلا بارا وخائف الله ومشهودا له من كل أمة اليهود قد أوحي إليه بملاك مقدس أن يستدعي بطرس الرسول إلي بيته ويسمع منه كلاما (أع22:10) . هذا وكان معلمنا القديس بطرس قد رأي " السماء مفتوحة وإناء نازلا عليه مثل ملاءة عطيمة مربوطة بأربعة أطراف ومدلاة علي الأرض. وكان فيها كل دواب الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء. وصار إليه صوت قم يا بطرس اذبح وكل . ... . و كان هذا علي ثلاث مرات ثم ارتفع الإناء أيضا إلي السماء ."(أع 11:10-16) ، هذه الرؤية تعني قبول الأمم وكل إنسان من كل أمة ومن كل جنس ومن كل قبيلة ومن كل لون ومن كل لسان لخلاص الرب يسوع . ولذلك قال"... وأما أنا فقد أراني الله أن لا أقول عن إنسان ما إنه دنس أو نجس "(أع 28:10) ، لأن اليهود كانوا يعتبرون الأممين نجسين . " ففتح بطرس فاه وقال بالحق أنا أجد أن الله لا يقبل الوجوه . بل في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده . الكلمة التي أرسلها إلي بني إسرائيل يبشر بالسلام بيسوع المسيح . هذا هو رب الكل . ... . له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال بإسمه غفران الخطايا . فبينما بطرس يتكلم بهذه الأمور حل الروح القدس علي جميع الذين كانوا يسمعون الكلمة . فاندهش المؤمنون الذين من أهل الختان كل من جاء مع بطرس لأن موهبة الروح القدس قد انسكبت علي الأمم أيضا. لأنهم كانوا يسمعونهم يتكلمون بألسنة ويعظمون الله . حينئذ أجاب بطرس أتري يستطيع أحد أن يمنع الماء حتي لا يعتمد هؤلاء الذين قبلوا الروح القدس كما نحن أيضا . وأمر أن يعتمدوا باسم الرب " ( أع 34:10-48 ) . لقد حل  الروح القدس علي المؤمنين قبل حصولهم علي العماد باسم الرب يسوع ، ولذلك قال معلمنا القديس بطرس " فتذكرت كلام الرب كيف قال إن يوحنا عمد بماء وأما أنتم فستعمدون بالروح القدس " (أع16:11) .

6 -  معلمنا القديس بولس " بعد ما اجتاز في النواحي العالية جاء إلي أفسس . فإذ وجد  تلاميذ قال لهم هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم . قالوا له ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس . فقال لهم فبماذا اعتمدتم . فقالوا بمعمودية يوحنا . فقال بولس إن يوحنا عمد بمعمودية التوبة قائلا للشعب أن يؤمنوا بالذي يأتي بعده أي بالمسيح يسوع . فلما سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع . ولما وضع بولس يديه عليهم حل الروح القدس عليهم فطفقوا يتكلمون بلغات ويتنبأون . وكان جميع الرجال نحو اثني عشر" (أع 1:19-7) . يتضح من ذلك أنه في عصر الرسل كان الإيمان والعماد باسم الرب يسوع مع وضع الأيادي علي المعمدين ضروري لكي يحل عليهم الروح القدس . وهذا واضح في قول معلمنا القديس بطرس للذين " نخسوا في قلوبهم وقالوا لبطرس ولسائر الرسل ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة . فقال لهم بطرس توبوا وليعتمد كل واحد منكم علي اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس ." (أع 37:2-38) . فالإيمان والمعمودية باسم الرب يسوع المسيح فقط  يكونان كافيان للخلاص ولكن ليس لنوال عطية الروح القدس ، كما هو مكتوب " من آمن واعتمد خلص . ومن لم يؤمن يدن " (مر16:16) .

  إنني أتضرع إلي الله القدير أن ينير الروح القدس قلوبنا وأفهامنا وأرواحنا لندرك عمله فينا كأفراد وفي الكنيسة وأسرارها وخدامها ، بشفاعة أمنا القديسة العذراء مريم وبالصلوات التي يرفعها عنا أبينا الطوباوي البابا تاوضروس الثاني وشريكه في الخدمة الرسوليه الأنبا دانييل وسائر أبائنا المطارنة والأساقفة وكل الإكليروس . ولإلهنا المجد الدائم . آميـــــن .



الـفـهـــرس

المـوضــــوع  الصفــــحـة

شكـــر وتقـديـــر                                                                                          
3
الباب الأول           المقـــدمـــة                                                                 
5
الباب الثاني       : الروح القدس في خلال فترة العهد القديم                          
10
الباب الثالث       :الروح القدس وعمله في الفترة ما بين نهاية العهد القديم                                           القديم  وبداية كنيسة العهد الجديد                                   
13
الباب الرابع     : الروح القدس وعمله في ميلاد كنيسة العهد الجديد                     
19
الباب الخامس   : عمل الروح القدس في الأسرار الكنسية                                       
25
الباب السادس   : أسماء الروح القدس ومواهبه                                                      
27
الباب السابع    : ثمار الروح القدس                                                                            
33
الباب الثامن    : السلوك بالروح القدس                                                               
39
الباب التاسع   : الخاتمة                                                                                
39

No comments:

Post a Comment