Tuesday, February 21, 2017

القديسة العذراء مريم


القـديســـة العـــذراء مريـــم

شكـــر وتقـديـــر



انني أشكر الله أبو ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي أعطاني موضوع هذا الكتاب علي فم الأب الورع جوناثان اسحق راعي كنيسة القديس مار مرقس الرسول بسيدني، ففي أثناء القداس الإلهي كلفني قداسته بكتابة كتاب عن السيدة العذراء مريم وكان ذلك يوم الثلاثاء 2 اغسطس 2016 . كما أقدم له شكري وامتناني علي مراجعة هذا الكتاب ، الرب يعوضه

وأقدم جزيل الشكر والامتنان لأمي الحبيبة وشفيعتي المطوبة القديسة العذراء مريم ، طالبا مؤازرتها  ومساعدتها  طوال فترة القيام بهذا العمل لكي يخرج هذا الكتاب بالصورة التي أتمني أن تعطي هذه القديسة الدائمة البتولية  المكانة العظيمة التي تحتلها كوالدة الإله . فهي الإنسانة الوحيدة التي اختارها التدبير الإلهي في ملء الزمان لتحمل في أحشائها الله الكلمة المتجسد، لأنه وجدها مستحقة لهذا الشرف العظيم من أجل طهارتها وقداستها وطاعتها وتفوقها علي جميع العذاري علي مر 4 آلاف سنة من عمر الخليقة. فالوحي الإلهي يشهد  بذلك علي فم معلمنا سليمان الحكيم فيقول " بنات كثيرات عملن فضلا . أما أنت فقد فقت عليهن جميعا" (أم39:31) . كذلك في صلواتنا بالأجبية في الصلوات السبع النهارية والليلية تخصص إحدي القطع وهي القطعة الثالثة في صلوات باكر والغروب والنوم ، والقطع الثالثة والسادسة في صلوات الساعات الثالثة  و السادسة و التاسعة ، كلها لتمجيد السيدة العذراء طالبين شفاعتها ومعونتها وإرشاد الروح القدس .أيضا نقول في صلواتنا " السلام لك ، نسألك أيتها القديسة الممتلئة مجدا العذراء كل حين والدة الإله أم المسيح اصعدي صلواتنا إلي ابنك الحبيب ليغفر لنا خطايانا. ... . نسألك اذكرينا أيتها الشفيعة المؤتمنة أمام ربنا يسوع المسيح ليغفر لنا خطايانا ." كما أن مجمع أفسس المسكوني الذي انعقد سنة 431 م بحضور 200 من أساقفة العالم المسيحي وضعوا مقدمة قانون الإيمان المقدس تقديرا لمكانتها وعظمتها والذي نتلوه في كل صلواتنا   فيه نقول : " نعظمك يا أم النور الحقيقي ونمجدك أيتها العذراء القديسة ، والدة الإله ، لأنك ولدت لنا مخلص العالم أتي وخلص نفوسنا ، ... " . وكما هو مكتوب في سفر الرؤيا " وظهرت آية  عظيمة في السماء امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلي رأسها إكليل من اثني عشر كوكبا وهي حبلي تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد ." (رؤ1:12-2) . هذه  الامرأة المتسربلة بالشمس هي السيدة العذراء مريم متسربلة بالسيد المسيح شمس البر لأنه قال عن نفسه " أنا هو نور العالم . من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة "(يو12:8) أيضا يقول عنه القديس يوحنا " كان النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسان آتيا إلي العالم"(يو9:1) ، والقمر الذي تحت رجليها هو القديس يوحنا المعمدان ، والإكليل الذي علي رأسها من اثني عشر كوكبا هم آبائنا الرسل الأطهار الاثني عشر محيطين بها يكرمونها إنني أتقدم بخالص الشكر والامتنان والتقدير للأب الروحي الموقر القمص مرقس خله لمراجعته هذا الكتاب. الرب يعوضه علي تعب محبته. راجيا أن يكون هذا الكتاب سبب بركة لكل من يقرأه بشفاعة أمنا كلنا وسيدتنا كلنا القديسة العذراء مريم. 
د. جميل فلتاؤوس


البـــاب الأول




نشـــأتهـــا


   نشأت القديسة العذراء مريم في أسرة بسيطة من أبوين يهوديين هما القديس يواقيم والقديسة حنه،  فكانت أمها حنه هي احدي ثلاث بنات لماثان بن لاوي بن ملكي من نسل هارون الكاهن ، وكان اسم والدة حنة مريم وهي من سبط يهوذا. أما بنات لماثان الثلاث فهم : الأولي مريم باسم جدتها وهي أم سالومي ، والثانية هي صوفية أم إليصابات والدة القديس يوحنا المعمدان والثالثة هي حنة زوجة يواقيم من سبط يهوذا ووالدة القديسة العذراء مريم   ( أم مخلص العالم بالجسد )، وبذلك تكون سالومي وإليصابات والقديسة العذراء مريم بنات خالات .   وكانت حنة زوجة يواقيم عاقرا ، فصلت هي وزوجها إلي الله ونذرا نذرا أن أول طفل يرزقون به سوف يقدمونه نزيرا لله في الهيكل ، فحبلت حنه ببشري من ملاك الرب ليواقيم ، والكنيسة تحتفل بعيد بشارة القديس يواقيم بميلاد السيدة العذراء يوم 7 مسري الموافق 13 أغسطس ، 

ورزقهم الله بطفلة أطلقوا عليها اسم  مريم (والدة الإله بالجسد) ولذلك تعيد الكنيسة بعيد ميلاد السيدة العذراء مريم في اليوم الأول من شهر بشنس الموافق يوم 9 مايو ، وعندما كبرت واصبح  عمرها ثلاث سنوات أخذها أبويها إلي الهيكل وفاء بنذرها للرب ، والكنيسة تعيد يوم 3 كيهك الموافق 13 ديسمبر بعيد دخولها الهيكل وإقامتها في الجناح المخصص للعذاري لتتعبد فيه للرب  . بعدها رزقت حنة بابنة أخري سمتها مريم أيضا وهي التي فيما بعد تزوجت كلوبا كما هو موضح  بإنجيل القديس يوحنا البشير " وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه وأخت أمه مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية " (يو 25:19).

مكثت العذراء مريم  في الهيكل حتي عمر 12 سنة ، وسط جو ديني ملئ بالطقوس الدينية اليهودية وبالتسبيحات والتمجيدات والابتهالات والصلوات والتأملات وسماعها قراءات أسفار العهد القديم والتلمود والمشناة اليهودية وهي مجموعة من تفسيرات الشريعة حسب تقليد الربيين اليهود عن العقيدة غير مكتوبة تتناقلها الأجيال جيلا بعد الآخر، كذلك الترجوم وهي مجموعة تفسيرات قديمة عن العهد القديم باللغة الآرامية ، مما كان له آثارا كبيرة في تكوين شخصية هذه الطفلة الصغيرة ، فترعرت في محبة الله وطاعته ومحبة كل من حولها. وكانت أثناء وجودها بالهيكل تقوم بخدمات مختلفة تسند إليها فأصقلها ذلك وتدربت علي التواضع والوداعة والطاعة وعدم التذمر أو الشكوي. وقد كان وجودها بالهيكل بعيدا عن ابويها وحرمانها من حنان الأمومة والأبوة وهي في سن صغير تدبيرا إلهيا ، لكي يعدها ويصقلها ويشكلها لأنه هو الفخاري الأعظم الذي يشكل جبلتها ويصنع منها آنية للكرامة والمجد . وقد توفي والديها وعمرها ثماني سنوات ، لكن الله عوضها فقدان والديها بأن ملأها من تعزيات السماء ، كما منحها الله  فضيلة الصمت ، والحكمة واللباقة في كلامها وتصرفاتها المملوءة محبة وعطفا وحنانا . مريم التي تربت في الهيكل، وعاشت حياة الصلاة والتأمل منذ طفولتها ، كانت الإناء المقدس الذي اختاره الرب ليحل   فيه في ملئ الزمان(غل4:4) .

   عاشت حياة القداسة والطهارة والعفة وهي في الهيكل ، ثم جاء وقت قيل لها فيه أن تخرج من الهيكل ، فلم تحتج ولم تعترض ولم تتذمر ،  وكانت ترغب في أن تعيش بلا زواج لأنها نذير للرب ، فأمروها أن تعيش في كنف رجل كما تقضي التقاليد اليهودية في ذلك الزمان .  فلم تحتج وقبلت أن تكون خطيبة لرجل عمره خمسة وتسعون عاما ، وقد كان اختيار القديس يوسف النجار اختيارا إلهيا معجزيا (انظر كتابنا القديس يوسف النجار). كانت القديسة مريم تحيا حياة التسليم ، لا تعترض، ولا تقاوم ، ولا تحتج . بل تسلم لمشيئة الله في هدوء  بدون جدال أو تذمر . ونظرا لأنها كانت قد أرادت حياة البتولية، ولم تفكر إطلاقًا في يوم من الأيام أن تصير أما، ولكن أراد الله لها أن تكون أما له بالجسد بحلول الروح القدس عليها (لو1: 35) فلم تجادل، بل أجابت الملاك الذي بشرها بعبارتها الخالدة "هوذا أنا أمة الرب.  ليكن لي كقولك".(لو38:1). لذلك وهبها الله الأمومة، واستبقى لها البتولية أيضا، وصارت أما، بل أعظم الأمهات قدرا وشأنا، فهي خــــــالــــــدة فـــــي نــفـــــــوس جــمــيــــــع الأجــيـــــال.

   عندما أمر الملاك القديس يوسف النجار بأن يأخذ الصبي وامه ويهرب إلي أرض مصر، خضعت في طاعة تامة  ، وتحتفل الكنيسة بعيد دخول العائلة المقدسة أرض مصر يوم 24 بشنس الموافق 1 يونيو تقريبا . وعندما مات هيرودس الملك أمر الملاك القديس يوسف النجار بالرجوع من أرض مصر فرجعت العائلة المقدسة إلي أرض فلسطين وسكنت في مدينة يقال لها "ناصرة"، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيدعي ناصريا.(مت23:2)

   المطوبة القديسة مريم هي أمنا كلنا، وسيدتنا كلنا، وفخر جنسنا، الملكة القائمة عن يمين الملك ، العذراء الطاهرة ، المملوءة نعمة ، الأم القادرة المعينة الرحيمة، أم النور، أم الرحمة والخلاص ، الكرمة الحقانية. هذه التي ترفعها الكنيسة فوق مرتبة رؤساء الملائكة فنقول عنها في التسابيح والألحان" علوت يا مريم فوق الشاروبيم وسموت يا مريم فوق السيرافيم" إنها والدة الإله ، دائمة البتولية ، حواء الثانية ، التي أزالت عار حواء الأولي ، وقد أنقذت البشرية من سقطة الخطية بولادتها مخلص العالم ربنا يسوع المسيح .

   هي العذراء الدائمة البتولية التي كانت تظهر في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي في كنيستها بقرية السلمية الحايط مركز نجع حمادي عشرات السنين تشفي المرضي وتخرج الشياطين من كثيرين ، كذلك  ظهرت في الزيتون عام 1968 م ، تتراءى على قباب كنيستها لسنوات طويلة. كما ظهرت في أماكن مختلفة من مصر في كنيسة القديسة دميانة  ببابادبلو وفي كنيستها بالوراق وغيرهم ، وفي أماكن مختلفة من العالم ففي بور سعيد حيث أيقونتها تنضح زينا من أجل البركة .  ولا توجد قديسة أحبها الناس مثل السيدة العذراء مريم لأنها جذبت إليها مشاعر الناس مسيحين ومسلمين ، بنورها الساطع في السماء ، وظهوراتها المتكررة ، ومعجزاتها وافتقادها لنا.

   في الطقوس الكنسية ، ما أكثر المدائح والتراتيل ، التماجيد والابصاليات والذكصولوجيات الخاصة بها  ، و بخاصة في شهر كيهك. ولها عند الكاثوليك شهر يسمى بالشهر المريمي .

    في مصر من محبة الشعب المسيحي لها ، يوجد العديد من الكنائس علي اسمها ، هذا بالاضافة الي بعض الأديرة للرهبان كدير البراموس ، ودير السريان ودير المحرق ، ودير للراهبات في حارة زويله بالقاهرة . وفي خارج مصر يوجد عدد كبير من الأديرة والكنائس والمدارس والمستشفيات وعيادات الأطباء علي اسمها.   فهي في عقيدتنا المسيحية " والدة الإله " (ثيئوطوكوس). وليست والدة (يسوع) كما ادعى أصحاب بدعة نسطور، الذين حاربهم القديس كيرلس الاسكندري ، وحرمهم مجمع أفسس المسكوني عام 431 م .

   كان اتضاع القديسة العذراء مريم وعفتها وطهارتها وبساطتها وبراءتها الطفولية سببا جوهريا في اختيار الله لها ليولد منها متجسدا ويحل عليها الروح القدس ليس لمباركتها فقط ولكن الأكثر من ذلك أنها هي الوحيدة التي حل عليها الروح القدس حلولًا أقنوميًا ، ليعمل في داخلها عملًا إلهيا معجزيا ، فقد أوجد في داخلها جنين بشري من غير زرع بشر، قدس مستودعها لكي لا يرث الجنين شيئًا من الخطية الجدية الأصلية  لآدم وحواء بسبب عصيانهم الله  ، ولذلك قيل لها من الملاك " القدوس المولود منك " (لو35:1)( لأنه بلا خطية). فقد أرسل الله الآب ابنه الوحيد الله الكلمة الاقنوم الثاني ، الذي تجسد من الله الروح القدس ومن القديسة العذراء مريم .  اتحد هذا الناسوت داخلها باللاهوت. فالأقانيم الثلاثة اشتركت في التجسد الإلهي ،  كل هذه أعمال إلهية عملها الروح القدس في السيدة العذراء مريم . فقول الملاك المبشر "الروح القدس يحل عليك " (لو1: 35) وهذا لا يعني أنه حلولا عاديا، كالذي كان يحل على الأنبياء  والملوك والكهنة بمسحة الدهن المقدسة في  العهد القديم ، أو كحلول الروح القدس بمواهبه علي التلاميذ في يوم الخمسين، ولكنه كان حلولا اقنوميا . وكانت قوة العلي تظللها حسب بشارة الملاك لها لكي  تستطيع أن تحتمل مجد حلول الروح القدس فيها ليقدس مستودعها ، وقوة العلي ظللتها لكي تستطيع أن تحتمل مجد التجسد الإلهي في أحشائها، ومجد ميلاد الرب منها، ومجد جميع الأجيال التي تطوبها. كذلك لكي تحتمل اتضاع إليصابات أمامها التي تنبأت وقالت لها "من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلىّ.." (لو1: 43). أيضا لكي ما تحتمل كل ظهورات الملائكة، وسجود المجوس أمام ابنها وتقديمهم هدايا ذهبا ولبانا ومرا. كذلك المعجزات الكثيرة التي حدثت من ابنها ربنا يسوع المسيح في أثناء هروب العائلة المقدسة لأرض مصر وسقوط الأصنام إلي الأرض وتهشمها ، (لمزيد من المعلومات انظر كتابنا القديس يوسف النجار) .

 الملاك عندما بشرها قال لها " القدوس المولود منك يدعي ابن الله"  بشرها الملاك بأنها ستصير أم ابن الله ، ولكنها في تواضع وانسحاق وبهجة وسرور قالت "هوذا أنا أمة الرب" (لو1: 35) أي أنا عبدته وجاريته ، فالمجد الذي ‘أعطي لها جعلها تزداد اتضاعا ووداعة.

   ظهر اتضاع العذراء أيضا في ذهابها إلى إليصابات لكي تقوم بالتهنئة بالحبل وكذلك خدمتها في فترة حبلها لأنها كانت تعلم أنها كانت متقدمة في السن هي وزوجها زكريا الكاهن، فسافرت إليها بسرعة إلي الجبال إلي مدينة يهوذا ، ومكثت مريم عندها ثلاثة أشهر تخدمهم ثم رجعت إلي بيتها(لو39:1-56) . فعلت ذلك وهي ‘حبلى برب المجد يسوع المسيح .  ومن عظمة القديسة مريم الدائمة البتولية اتضاعها وصمتها وعدم حديثها عن أمجاد البشارة والتجسد الإلهي .













البـــاب الثـــانــي

النبـــوات



أولا : النبوات في فترة العهد القديم :
    العهد القديم ملئ بنبوات عن القديسة الطاهرة مريم قبل مولدها ب1400سنة تقريبا ، فقد كان الله  يتدرج في إعلاناته  للبشر بحسب  استطاعتهم لفهم ومعرفة وقبول تلك النبوات أذكر بعضا منها :-

1 – نسل المرأة يسحق رأس الحية :  أعطى الله الوعد بأن نسل المرأة يسحق رأس الحية قائلا "واضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه" (تك 3: 15) ، فهذه المرأة هي السيدة العذراء مريم التي في ملئ الزمان ولدت لنا مخلص العالم ربنا يسوع المسيح الذي سحق الشيطان (الحية القديمة) وانتصر علي الخطية الموروثة بالصليب وداس  الموت بالموت  .

2- ولادة المسيح من عذراء :   تنبأ إشعياء النبي عن ميلاد مخلصنا يسوع المسيح من عذراء قبل ولادته بحوالي 740 سنة ، وكتب هذة النبوة في أورشليم والتي تقول " ولكن يعطيكم السيد نفسه آية . ها العذراء تحبل وتلد إبنا وتدعو اسمه عمانوئيل " (إش14:7) . 

3- العذراء الملكة : ترنم المرنم في المزمور وتنبأ عن رفعة مكانتها وسمو مقامها فدعاها الملكة لأنها من جنس ملوكي وأيضا هي أم ملك الملوك ورب الأرباب وقال " جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير " (مز9:45) لأن المسيح المولود منها قد مسحه الله الآب ملكا علي شعبه كما هو مكتوب "أما أنا فقد مسحت ملكي علي صهيون جبل قدسي ." (مز6:2) .

4 – الفرح والترنم لبنت صهيون : تنبأ زكريا النبي نبوة وقال " ترنمي وافرحي يا بنت صهيون لأني هانذا آتي وأسكن في وسطك يقول الرب"(زك10:2) ، فقد حل الفرح والسرور والترنم من السمائين والأرضين بميلاد الرب يسوع من العذراء مريم ابنة صهيون .

5 – السحابة السريعة : تبنأ إشعياء النبي علي أن العذراء مريم هي السحابة السريعة التي تحمل في حضنها الطفل يسوع وهو الله الظاهر في الجسد في رحلة هروب العائلة المقدسة إلي أرض مصر  فقال " وحي من جهة مصر . هوذا الرب راكب علي سحابة سريعة وقادم إلي أرض مصر فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها "(إش1:19) .

6 – بتولية وبكورية مريم العذراء : تنبأ حزقيال النبي علي أن القديسة مريم العذراء بتول ودائمة البكورية فقال " فقال لي الرب هذا الباب يكون مغلقا لا يفتح ولا يدخل منه إنسان لأن الرب إله إسرائيل دخل منه فيكون مغلقا " (حز2:44). وهذه النبوة تشير أيضا علي أن العذراء مريم لم تتزوج قبل أو بعد ولادتها لرب المجد يسوع المسيح ، بل ظلت بكرا كل أيام حياتها، وقد حبلت بحلول الروح القدس عليها إقنوميا ، وولدت الرب يسوع وبكوريتها مصونة.

7 – تفوق القديسة العذراء مريم علي جميع العذاري : تنبأ معلمنا سليمان الحكيم والملك عن تفوق السيدة العذراء مريم الطاهرة الدائمة البتولية علي جميع العذاري اليهوديات الذين سبقوها منذ بدء الخليقة فقال " بنات كثيرات عملن فضلا وأما أنت ففقت عليهن جميعا " (أم 29:31) ، ولذلك اختارها الله لأنه وجدها مستحقة وإئتمنها لتستقبل بركات حلول اقنوم الروح القدس عليها.

ثانيا : النبوات في فترة ما بين العهد القديم وميلاد كنيسة العهد الجديد:

1نبوة إليصابات :عندما دخلت السيدة العذراء مريم بيت زكريا وسلمت علي إليصابات "فلما سمعت إليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها وامتلأت إليصابات من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك . فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ . فهوذا حين صار صوت سلامك في أذنيً ارتكض الجنين بابتهاج في بطني . فطوبي للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب " (لو41:1-45) . إن إمتلاء إليصابات من الروح القدس بمجرد سماعها سلام مريم ، دليل علي ان الله الظاهر في الجسد الذي ينمو في بطن العذراء مريم هو الذي أرسل الروح القدس المنبثق من الآب لتمتلئ به  إليصابات وكذلك الصبي يوحنا وهو في بطن أمه (لو15:1)، أيضا ارتكاض الجنين بابتهاج في بطن إليصابات ، لأن هذا الجنين شعر بأن الذي في بطن القديسة العذراء مريم هو ملك الملوك ورب الأرباب الذي هو سيعد الطريق أمامه . وإمتلاء إليصابات من الروح القدس جعلها تتنبأ وتقول " فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليً . ... . فطوبي للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب "(لو43:1-45) ، فقد علمت بالروح القدس الذي حل عليها أن الملاك بشر القديسة مريم وأنها قد قبلت هذه البشارة المفرحة.

2 – نبوة سمعان الشيخ : كان الرجل البار التقي سمعان الشيخ كاهنا ونبيا وهو أحد الاثنين وسبعين شيخا يهوديا المجتمعين في مدينة الإسكندرية في أيام الملك بطليموس الثاني فيلادلفوس (285 / 247 ق.م.)، الذين اشتركوا في الترجمة السبعينية لترجمة أسفار العهد القديم من العبرية إلي اليونانية ، وكانوا ‘مقسمين إلي 12 مجموعة كل مجموعة مكونة من 6 شيوخ يقومون بالترجمة كل علي انفراد ، وأثناء ترجمة الآية " ولكن يعطيكم السيد نفسه آية . ها العذراء تحبل وتلد إبنا وتدعو اسمه عمانوئيل " (إش14:7) . لم يقبل عقل سمعان الشيخ ذلك وأراد تغير كلمة العذراء " تي بارثينوس " إلي الأم أو السيدة. فأوحيً إليه بالروح القدس أن يكتب الكلمة كما هي " العذراء" وأنه لن يري الموت قبل أن يري مسيح الرب . عاش قرابة 300 عاما حتي جاء ملء الزمان وكان بصره قد  ضعف ، فأتي بالروح إلي الهيكل وعندما دخل بالصبي يسوع أبواه ليصنعا له حسب عادة الناموس أخذه على ذراعيه وبارك الله وقال " الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام. لأن عينيَ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب . نور إعلان للأمم ومجدا لشعبك إسرائيل . وكان يوسف وأمه يتعجبان مما قيل فيه . وباركهما سمعان وقال لمريم أمه ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل ولعلامة تقاوم . وأنت أيضا يجوز في نفسك سيف . لتعلن أفكار من قلوب كثيرة."(لو29:2-35).

   كان اليهود علي معرفة تامة بنبوات العهد القديم التي تتحدث عن بركات المسيح لأمتهم اليهودية ، وكانوا يتغافلون عن الاهتمام بالنبوات التي تقول أنه يخلص العالم كله وليس اليهود فقط كنبوة إشعياء النبي القائل "فقال قليل أن تكون لي عبدا لإقامة أسباط يعقوب ورد محفوظي إسرائيل .  فقد جعلتك نورا للأمم لتكون خلاصي إلي أقصي الأرض " (إش 6:49) . فالمسيح قد جاء ليخلص كل من يؤمن به ربا وفاديا ومخلصا من كل أمة ومن كل عرق ومن كل جنس ومن كل لون ومن كل لسان.

   تنبأ سمعان الشيخ أن الناس سيكونون قسمين قسم يقاوم المسيح ويرفضه بشدة والقسم الآخر يقبله بفرح ، والعلامة التي تقاوم هي علامة الصليب المقدس . وتنبأ وقال لمريم أم يسوع المسيح أنه "سيجوز في نفسك سيف" ، وهو سيف الألم لرؤيتها إبنها ربنا يسوع المسيح يضرب ويهان وتدق المسامير في يديه ورجليه ويعلق علي الصليب كمجرم أثيم ويستهزؤن به ، ثم  يموت ويدفن في القبر .























البـــاب الثـــالـــث

ألقـــابهـــا وعظمتهـــا



 أولا : ألقابها :  للسيدة العذراء مريم ألقاب وصفات كثيرة أذكر بعضا منها :

1 –  السماء الثانية : الكنيسة تلقبها بالسماء الثانية  ، لأن الله الساكن في السماء أخلي ذاته ونزل من السماء وسكن في بطنها تسعة أشهر لذلك لقبت بالسماء الثانية.

2 – الممتلئة نعمة : الكتاب يلقب العذراء بأنها "الممتلئة نعمة" ، وكنيستنا القبطية الأرثوذكسية تتمسك بهذا اللقب ، وليس "المنعم عليها " فكل البشر مُنعم عليهم، أما العذراء فهى الممتلئة نعمة كما هو موضح بالترجمة اليونانية .

3- خيمة الاجتماع : الكنيسة تلقبها بخيمة الاجتماع ، لأن القديسة الطاهرة مريم  كانت مقدسا لحلول ولسكني الله كما كانت قديما خيمة الاجتماع كقول الله لمعلمنا موسي" فيصنعون لي مقدسا لأسكن في وسطهم " (خر25:8) .

4 - مدينة الله : تلقبها الكنيسة بمدينة الله كما هو مكتوب بالمزمور" أعمال مجيدة قد قيلت عنك يا مدينة الله" (مز87 : 3 ).

5 - صهيون الأم : كما لقبها المزمور " صهيون الأم تقول أن أنسانًا وأنسانًا صار فيها. وهو العلي الذي أسسها إلي الأبد"(مز 5:87) .

6 - قسط المن المصنوع من الذهب : تلقبها الكنيسة بقسط المن باعتبار أن المن هو الطعام، الذي أعطاه الله للاسرائلين لكي لا يهلكوا في البرية ، والسيد المسيح يقول عن نفسه " أنا هو خبز الحياة "(يو48:6) " أنا هو الخبز الذي نزل من السماء " ( يو58:6) والقديسة العذراء مريم كانت تحمله في بطنها مثلما كان قسط المن الذهبي يحوي هذا المن الذي نزل لبني إسرائيل من السماء ليعولهم ويحييهم في البرية، وقسط المن مصنوع من الذهب تكريما وإشارة لرفعة مكانتها .

7- عصا هارون : تلقبها الكنيسة ب "عصا هارون التي أفرخت وأزهرت ثمرا " بدون أن تزرع في الأرض وتروي بالماء ، تعبيرا عن حبلها وهي بتول عذراء وبدون زرع بشري.

8 – المنارة الذهبية : لقبت السيدة العذراء بالمنارة الذهبية المذكورة في (خر31:25-40) لأنها تحمل المسيح فهو" كان النور الحقيقي الذي يضئ لكل إنسان آتيا إلي العالم " (يو9:1) .وقد شبهت بالمنارة الذهبية لعلو مكانتها وطهارتها وعفتها ونقاوتها.

9 – لوحي الشريعة : لقبت بلوحي الشريعة المكتوب بهما كلمة الله ، والعذراء حملت كلمة الله " والكلمة صار جسدا وحل بيننا ورأينا مجده مجدا كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقا "(يو14:1) .

10 – سلم يعقوب : لقبت العذراء مريم ب "سلم يعقوب " التي كانت منصوبة علي الأرض، وواصلة إلي السماء ، لأنها كانت وهي علي الأرض تحمل السيد المسيح النازل من  السماء في داخلها. (تك12:28). وكان وهو في بطن القديسة العذراء مريم أيضا في السماء يدبر الكون ويديره.

11 – العليقة : تلقب السيدة العذراء "بالعليقة التي تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق "(خر2:3) ، والعذراء حملت في أحشائها المسيح كلمة الله المتجسد .. جمر نار اللاهوتية دون أن تحترق أحشائها ، حيث أن " إلهنا نار آكلة" ( عب29:12) .

12 – المجمرة الذهب : تلقب العذراء بالمجمرة الذهب لأنها أثناء الحمل كانت تشبه المجمرة التي تحوي بداخلها الفحم المتوهج لإتحاده بالنار ، كما كانت العذراء تحمل اللاهوت (النار) متحدا بالناسوت (الفحم) ويدعونها بالمجمرة الذهبية لعلو مكانتها وطهارتها وعفتها ونقاواتها.

13 -  الحمامة الحسنة  : تلقب العذراء بالحمامة الحسنة، لأنها تشبه الحمامة في وداعتها وبساطتها، وأيضا حلول الروح القدوس عليها ، والروح القدس ظهر بشكل حمامة (مت16:3). كما تشبه بحمامة نوح التي حملت إليه ورقة زيتون لتبشره بالخلاص من مياه الطوفان ورجوع الحياة إلي الأرض (تك 8: 10، 11).

14 – العروس : لقبت العذراء مريم أيضا بالعروس لأنها العروس الحقيقية لرب المجد. وتحقق فيها قول الرب لها في المزمور " اسمعي يا ابنتي وانظري، وأميلي أذنك، وانسي شعبك وبيت أبيك.  فإن الملك قد اشتهى حسنك، لأنه ربك وله تسجدين" (مز10:45-11)

15- صديقة سليمان: لقبت السيدة العذراء بصديقة سليمان ، أي عذراء النشيد. وقيل عنها في المزمور "كل مجد ابنة الملك من داخل  ، مشتملة بأطراف موشاة بالذهب مزينة بأنواع كثيرة" (مز13:45).

ثانيا : عظمة القديسة مريم

عظمة القديسة الطاهرة العذراء مريم تكمن في أنها تحمل في طبيعتها البشرية الظاهرة الطبيعية ونقيضها ، وسوف أوضح بعض الأمثلة لذلك كما يلي :-

1 – أمنا القديسة العذراء مريم هي الوحيدة في البشرية كلها التي كانت عذراء وأم ، أي بتول بكر وكذلك الأم الباقية عذراء. فالسيدة العذراء حبلت وولدت وعاشت وأنجبت وهي عذراء وبكوريتها مصونة مختومة. لم تتزوج طول أيام حياتها علي الأرض . والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما جاء في إنجيل معلمنا متي البشير " ولما جاء إلي وطنه كان يعلمهم في مجمعهم حتي بهتوا وقالوا من أين لهذا هذه الحكمة والقوات . أليس هذا ابن النجار . أليست أمه تدعي مريم وإخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا . أوليست أخواته جميعهن عندنا . فمن أين لهذا هذه كلها ." (مت 54:13-56) ، كذلك أنظر (مر3:6). فهل للمسيح إخوة  ؟ .

الإجابة باختصار هي كـــــــــلا ، لم يكن للمسيح إخوة . يوضح ذلك إنجيل معلمنا متي البشير " وكانت هناك نساء كثيرات ينظرن من بعيد وهن كن قد تبعن يسوع من الجليل يخدمنه . وبينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسي وأم ابني زبدي " (مت 55:27-56) . فيعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا هؤلاء هم أولاد خالة المسيح له المجد من مريم زوجة كلوبا " وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه وأخت أمه مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية "(يو25:19). وقد كان اليهود يعتبرون أولاد الخال والخالة وأولاد العم والعمة  إخوة كما ورد في قول أبرام للوط إبن أخيه " لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأننا نحن أخوان " (تك8:13) ، كذلك كانوا يعتبرون ابن الأخ خايعتبرونه أخا وووووووووووووو......

ووابن الأخت إخوة  كقول لابان ليعقوب " ألأنك أخي تخدمني مجانا أخبرني ما أجرتك " (تك 15:29) ، مع أن لابان هو خال يعقوب . وهذا  يوضح مما لا يدع مجالا للشك أن المسيح له المجد لم يكن له إخوة من القديسة مريم ، وأن القديسة العذراء مريم لم تتزوج طوال أيام حياتها . ولو كان للقديسة العذراء مريم أولاد أو بنات فلماذا لم يأخذها أحدهم لتعيش معه ، وهل كان السيد المسيح يحرم أمه من أولادها بالجسد لتعيش مع يوحنا الحبيب ؟. " وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه وأخت أمه مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية . فلما رأي يسوع أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفا قال لأمه  هوذا ابنك  ثم قال للتلميذ  هوذا أمك  . ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلي خاصته." (يو 25:19-27) .

كما أن قصة الميلاد (مت 18:1-23) وقصة هروب العائلة المقدسة لأرض مصر (مت13:2-14) ، كذلك قصة عودة العائلة المقدسة من أرض مصر إلي الناصرة (مت 19:2-23) ، وقصة ذهاب أبواه كل سنة إلي أورشليم في عيد الفصح (لو41:2-52)  تؤكد أن هذه العائلة المقدسة مكونة من الرب يسوع وأمه القديسة العذراء  مريم والقديس يوسف النجار ولا أحد سواهم .  

2 – السيدة العذراء مريم هي أم بدون زواج وبلا زوج بشري . أيضا هي والدة بدون والد بشري للمولود ، لأن المولود هو الله الظاهر في الجسد كما هو مكتوب " وبالإجماع عظيم هو سر التقوي الله ظهر في الجسد . ... " (1تيمو16:3). ونحن نقول أن  المسيح هو ابن الله  باللاهوت وأيضا ابن الإنسان بالناسوت مولودا من العذراء مريم بغير زرع بشر وكثيرا ما كان السيد المسيح يلقب نفسه بابن الإنسان وهذه تعبيرات  مجازية وكناية لغوية  لأن الله روح كقول رب المجد يسوع للسامرية  " الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا ." (يو 24:4) ، فنحن حين نقول "مصر بنت النيل " ، والنيل لم يتزوج لكي ينجب مصر ، كذلك نقول " ابن المدينة ، وبنت البادية ، وهذه الفكرة هي من بنات أفكاري " ، فالمدينة لم تتزوج لتنجب ابنا ولا البادية تزوجت لتنجب بنتا ولا أفكاري تزوجت لكي تلد هذه الفكرة ، ولكنها كلها تعبيرات مجازية وكناية لغوية. فالمسيح له المجد له لاهوت وله ناسوت، وهو ابن الله باللاهوت وابن الإنسان بالناسوت ، والأب الكاهن في القداس الإلهي يقول أن "لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين  ".

3 – جبل الرب الإله آدم الأول  ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حيوة . فصار آدم نفسا حية (تك7:2). ولكي يخلق الرب الإله حواء الأولي أخذ ضلعا من أضلاع آدم وبناها امرأة له (تك 21:2-22). فآدم الأول ‘جبل من ‘جبلة وحواء الأولي خلقت من مخلوق . فهل المخلوقة حواء الثانية القديسة العذراء مريم يمكن أن تلد خالقها ؟!!! . وهذه هي عظمة سر التجسد الإلهي الذي أخذ من السيدة العذراء جسدا، فالسيدة العذراء مريم تفوق كل عقل وتصور لأنها حبلت وولدت خالقها ربنا يسوع المسيح خالق الكون وكل ما فيه ما في السماء وما علي الأرض وما تحت الأرض وما في البحار بقدرة كلمته .

4 – من عظمة القديسة العذراء مريم أنها دائمة البتولية ، فقد كانت عذراء قبل الحمل ، وعذراء أثناء الحمل وعذراء بعد الولادة وبكوريتها مصونة بشهادة سالومي القابلة . فهي عذراء بتول " إيبارثينوس "  وهي أم  ونقول عنها والدة الإله  " ثيؤطوكوس" .

5 -  أمومة  العذراء مريم لابنها ربنا يسوع المسيح  تجعلها مستحيلة أن تكون بنتا له ، و زواج العريس من العروس يمنعها أن تكون بأي حال من الأحوال  أختا له. العذراء ملكة لأنها من جنس ملوكي وهي أيضا أم ملك الملوك ورب الأرباب وهي في نفس الوقت عبدة لأنها قالت للملاك "هوذا أنا أمة الرب . ليكن لي كقولك" (لو38:1) .

فهل يمكن أن تجتمع الأمومة مع البنوة ، والملوكية مع كونها عبدة؟ !!   ، والزوجة مع الأخت ؟ !!!  .

أما القديسة العذراء مريم فإن عظمتها تكمن في أنها هي الأم وهي أيضا الإبنه. والقديسة العذراء مريم فهي العروس وهي أيضا الأخت كقول السيد المسيح بفمه الطاهر " من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي " (مت 50:12) .. والقديسة العذراء مريم هي الملكة وهي أيضا العبدة ولذلك نجدها في الأيقونات مرسومة عن يمين المسيح وعلي رأسيهما تاج الملوكية .

6 – كان حلول الروح القدس إقنوميا علي القديسة العذراء مريم لكي يقدس مستودعها ليحل الله الكلمة في داخلها  ،   فكيف إذن تصير أحشاء القديسة مريم مسكنا له ؟!! ومنها يتخذ لذاته جسدا: لحما ودما وعظاما؟!!.

وهل يمكن أن  تلد الجبلة جابلها؟!! وتحوي البطن ، غير المحوي؟!!

ولكن القديسة العذراء مريم عظمتها تتمثل في أنها قد جمعت التناقضات ، لأنها حبلت بنار جمر اللاهوتية في أحشائها دون أن تمسها بأذية .

7 – السيدة العذراء مريم حبلت بها أمها حنه عن طريق الزواج الطبيعي للبشر من أبوها يواقيم وقد ورثت الخطية الجدية الأصلية من أبوينا آدم وحواء كسائر البشر ، ولذلك قالت " تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي" (لو46:1) ، فهي في حاجة لخلاص ربنا يسوع المسيح . وخلافا لكل البشر ، حبلت السيدة العذراء مريم بالسيد المسيح بدون خطية وبدون زرع بشر ، بل حل عليها الروح القدس حلولا إقنوميا ليطهرها لكي لا يرث القدوس المولود منها الخطية الجدية ، وصنع في أحشائها عملا إلهيا معجزيا بأن حل في أحشائها الله الكلمة ، ليأخذ منها جسدا ، لحما ودما وعظاما .فاللاهوت اتحد بالناسوت بدون اختلاط أو امتزاج أو تغيير، كما أن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين.

فالعذراء مريم المولودة وارثة للخطية الجدية صارت أما لمولود بدون خطية .  إنها دونا عن كل البشر ولدت المخلص . ولكنها كأي إنسان من البشر تحتاج إلي الخلاص ، فجهادها الروحي وعفتها وطهارتها وتواضعها هو الذي أه وأعدها وفي ملء الزمان اختارها الله دونا عن كل العذاري اليهوديات . ورغم تكريمنا لأمنا العذراء وتقديسنا لبتوليتها  وعذراويتها الطاهرة إلا أنها ورثت من آدم وحواء آثار ونتائج خطيتهم . وإلا فما فائدة دم السيد المسيح إن كان يمكن محو الخطية من شخص أو أكثر بغير سفك دم ؟

8 – إنه لمن السهل والمستطاع أن تري الأرواح أرواحا أخري وكذلك تري أناسا من البشر ، ولكنه من رابع المستحيلات أن يري البشر الأرواح التي إنتقل أصحابها إلي السماء ، إلا ربما في أحلام أو رؤي.. ولكن السيدة العذراء مريم لعظمتها منحنا الله نحن الأحياء في الجسد رؤية أعمالها ومعجزاتها من شفاء مرضي واجراء عملياتجراحية مستعصيه لبعض أبنائها المرضي  في ظهورات مقدسة ومن اشراق نور أبيض لامع وساطع في الحجرة . وكأن العذراء نقلت نشاطها من مكان مستقرها الآن كشفيعة لنا إلي الأرض حيث نسكن نحن ، لكي تمنحنا السلام والطمأنيه والشفاء.

9 – الموت الجسدي هو انفصال الروح عن الجسد ، فتصعد الروح إلي مكان إنتظار الأرواح إما في الفردوس في السماء الثالثة لللأبرار ، أو في الجحيم مكان إنتظار الأشرار ، انتظارا ليوم المجئ الثاني لرب المجد يسوع ليدين العالم ، والجسد الترابي يعود إلي التراب . الكتاب المقدس يخبرنا  أيضا أن الذين اختطفوا إلي السماء اختطفوا بأرواحهم دون أجسادهم مثل القديس يوحنا الرائي " كنت في الروح في يوم الرب " (رؤ10:1) والقديس بولس الرسول الذي  أختطف إلي الفردوس وسمع كلمات لا ينطق بها (2كو4:12) وكان لا يعلم هل في الجسد أم خارج الجسد (2ك3:12) واللذين صعدوا إلي السماء أحياء بأجسادهم وأرواحهم فهم إيليا النبي (2مل 11:2)وأخنوخ البار(تك24:5) . ولكننا لم نسمع عن صعود جسد ليس فيه روح إلي السماء لأن هذا ضد قانون الجاذبية الأرضية .    أما السيدة العذراء مريم فقد حضر السيد المسيح مع جوقة من الطغمات السمائية لحظة نياحتها ، التي كان قد سبق أن أعلمها بموعدها بالروح القدس ، وأصعد روحها الطاهرة إلي السماء بعد نياحتها والكنيسة تحتفل بعيد نياحتها يوم 21 طوبه الموافق 30 يناير تقريبا ، أما جسدها الطاهر فقد كفن ودفن في القبر ، وبعد فترة جاء السيد المسيح مع جوقة من الملائكه والطغمات السمائية وحملوا جسدها الطاهر إلي السماء كشهادة القديس توما الرسول الذي كان عائدا من التبشير بالهند ورأي جسدها الطاهر صاعدا إلي السماء فأسرع وقبله كما أمره الملاك  . والكنيسة تعيد بعيد إصعاد جسدها الطاهر إلي السماء يوم 16 مسري الموافق 22 أغسطس .  وكانت أيام حياتها علي الأرض ستين سنة. قضت منها اثنتي عشرة سنة حتي غادرت الهيكل وأربع وثلاثين سنة مع ابنها ربنا يسوع المسيح حتي صعوده إلي السماء. وأربع عشرة سنة عند القديس يوحنا الإنجيلي، كوصية الرب القائل لها "هذا ابنك " وليوحنا: "هذه أمك" (يو26:19-27).

10 – نحن كبشر أحياء نبتهج فرحا ومن شدة فرحنا أحيانا نذرف الدموع ، دموع الفرح ، كذلك أحيانا كثيرة من شدة الحزن والأسي تنساب دموعنا من عيوننا كقطرات المطر المنهمر ولكن من الصعب علينا كبشر أن نذرف دموع الفرح والبهجة وفي نفس الوقت دموع الألم والحسرة لأنهما من حيث الأحاسيس والمشاعر الإنسانية متضادين .

أما القديسة العذراء مريم فقد ابتهجت كإنسانة لقبولها الخلاص . وكانت كأم تتلوي من الألم والحسرة وتنهمر الدموع من عينيها كالأمطار الغزيرة عند رؤيتها ابنها تدق المسامير في يديه ورجلية ويعلق علي الصليب كمجرم أثيم ، ويسلم الروح في يدي الآب ، لذلك قالت وهي باكية " أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص ، وأما أحشائي فتلتهب عند نظري إلي صلبوتك الذي أنت صابر عليه من أجل الكل يا ابني وإلهي " (القطعة السادسة من صلاة الساعة التاسعة ) .







البـــاب الـرابـــع

الـبـشـــارة



الكتاب المقدس وهو كلمة الله المقدسة يخبرنا في أول اصحاح من بشارة معلمنا القديس لوقا البشير بالبشارة الرائعة المدهشة المفرحة التي تفوق العقل البشري وكل تصوراته ،  تلقتها العذراء مريم من رئيس الملائكة جبرائيل والتي توضح أن الله الآب قد وجد مسكنا بشريا لابنه الوحيد الجنس ليحل فيها بالروح القدس حلولا إقنوميا . فلما جاء ملء الزمان اختار الله القديسة العذراء مريم ليحل الله الكلمة  باللاهوت في بطنها ، ويتحد ابن الله بجنسنا البشري ويكون هو أيضا ابن الإنسان حين جاءنا بجسد الذي أخذه من أمنا الطاهرة القديسة مريم  فقد أخذ منها جسدا لحما ودما وعظاما. وكما يقول الأب الكاهن في الاعتراف الأخير من القداس الإلهي أن    " لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين" ، وفيما يلي النص الكتابي

"وفى الشهر السادس ‘أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل أسمها ناصرة إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم. فدخل إليها الملاك وقال سلام لك أيتها الممتلئة نعمة . الرب معك . مباركة أنت في النساء . فلما رأته أضطربت من كلامه وفكرت ما عسي أن تكون هذه التحية. فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله . وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع . هذا يكون عظيما وابن العلي يدعي ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه . ويملك علي بيت يعقوب إلي الأبد ولا يكون لملكه نهاية . فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا . فأجاب الملاك وقال لها . الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعي ابن الله. " (لو 1: 26- 35).

عندما تلقت القديسة العذراء مريم البشارة من الملاك جبرائيل المرسل من الله ، فكونها عذراء بتول سألت الملاك جبرائيل في براءة طفوليتها " كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا ؟ " وهو سؤال من أجل المعرفة وليس الشك في كلام  الملاك ، ولذلك لم يعاقبها الملاك كما عاقب زكريا الكاهن عندما ظهر له ملاك الرب واقفا عن يمين مذبح البخور وبشره بأن طلبتك قد سمعت وامرأتك إليصابات ستلد لك ابنا وتسميه يوحنا (لو 11:1-12) ، فقال زكريا للملاك كيف أعلم هذا لأني أنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها . فأجاب الملاك وقال له أنا جبرائيل الواقف قدام الله و أرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا. وها أنت تكون صامتا لا تقدر أن تتكلم إلي اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في حينه .

زكريا كاهن ويعلم الكتب لأنه " من فم الكاهن تطلب الشريعة " (ملا 7:2) وبصفته كاهنا يعلم أن أمنا ساره وابونا إبراهيم قد  أنجبا اسحق في شيخوختيهما فكيف لا يصدق الملاك ؟  ، ولذلك عوقب  بعدم قدرته علي الكلام إلي اليوم الذي يكون فيه هذا .

أما القديسة الطاهرة العذراء مريم  فقد سمت وتفوقت بإيمانها وطاعتها علي زكريا الكاهن ، فكان سؤالها للملاك سؤال استفساري من أجل المعرفة لذلك طمأنها الملاك جبرائيل وقال لها " الروح القدس يحل عليك  وقوة العلي تظللك فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعي ابن الله " (لو35:1).

وانني أعتقد أن القديسة العذراء مريم استقبلت هذه البشارة بفرح وابتهاج ، لأن كونها عاشت في الهيكل حتي كان عمرها 12 سنة فهي قطعا سمعت نبوة إشعياء النبي القائلة " ولكن يعطيكم السيد نفسه آية . ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل"  (إش 14:7 ) ، لأن كل اليهوديات الذين ولدن قبل العذراء مريم  كن يتمنين أن يأتي المسيا المنتظر مخلص العالم منهن لكي تتحقق فيهن هذه النبوة ويأخذن بركة وشرف حلول الروح القدس عليهن ، ومعلمنا سليمان الحكيم تنبأ عن ذلك وقال " بنات كثيرات عملن فضلا وأما أنت فقد فقت عليهن جميعا " (أم 29:31) ، ولذلك قالت للملاك في حب واتضاع وطاعة وتسليم كامل " هوذا أنا آمة الرب ليكن لي كقولك " أي "أنا عبدة الرب وخادمته وأقبل قولك بفرح " .

ففي اللحظة التي قبلت فيها العذراء مريم البشارة بفرح وقدمت التواضع والطاعة التامة لله ، استقبلت التجسد الإلهي في أحشائها بحلول الروح القدس عليها إقنوميا ليطهرها، وحل في أحشائها الاقنوم الثاني الله الكلمة ، الابن المولود من الآب قبل كل الدهور ليأخذ منها جسدا لحما ودما وعظاما ، لأن الله يقدس الحرية الإنسانية ، ولم يكن من الممكن أن يتجسد المسيح منها وهي لا تقبل هذا .

لقد ‘أرسل الملاك جبرائيل من الله إلي عذراء مخطوبة لرجل هو يوسف النجار البالغ من العمر 95 سنه ، لأن وجود يوسف النجار كخطيب لها سوف يحميها من شكوك الناس والجيران عندما تظهر عليها بوادر الحمل وسوف ينجيها من عقوبة الرجم حتي الموت طبقا للشريعة الموسوية . وقد كانت الخطبة في التقليد اليهودي في ذلك الزمان تسمح للخطيبة أن تعيش مع الخطيب في نفس المنزل بدون وجود علاقات زوجية حميمة (جنسية ) لحين إتمام مراسم الزواج . لهذا دعيت القديسة العذراء مريم  " إمرأة يوسف النجار " كقول الملاك ليوسف النجار في حلم " يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس . فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع . لأنه يخلص شعبه من خطاياهم " (مت20:1-21) .     كما أن وجود القديس يوسف النجار في المشهد مع القديسة العذراء مريم سوف يشكك الشيطان ويربكه في أمر المولود من جهة التجسد الإلهي ، ولذلك فإن السيد المسيح " أوصي تلاميذه أن لا يقولوا لأحد إنه يسوع المسيح "(مت 20:16) ، كذلك منع الذين شفاهم من ذكر اسمه المبارك .

كانت تحية الملاك للقديسة العذراء مريم تحية فريدة من نوعها تحمل في طياتها أفراح السماء وغبطة السمائيين فبدأ يمتدحها بأنها "الممتلئة نعمة " فهي الوحيده من بني جنسها  التي ‘وهبت الامتلاء بالنعمة وأن الرب معها وانها مباركة في النساء  كقوله " سلام لك أيتها الممتلئة نعمة ، الرب معك ، مباركة أنت في النساء " (لو28:1) .  لأن  الله الكلمة سوف يخلي ذاته ويحل في أحشائها لتكون العذراء مريم  له سماء ثانية ، ثم يتجسد منها لكي يخلص العالم من خطاياهم .

عندما رأت القديسة العذراء مريم الملاك وسمعت كلامه وتحيته اضطربت خجلا ولم تستطع مجاوبته لأنها لم تري ملاكا من قبل وفكرت فيما هو  سبب هذه التحية ." فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لأنك وجدت نعمة عند الله . وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع . هذا يكون عظيما وابن العلي يدعي ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه . ويملك علي بيت يعقوب إلي الأبد ولا يكون لملكه نهاية" (لو30:1-33)، كلمات الملاك لها طمأنتها وهدأت من اضطرابها لأنها عرفته  واصبحت تتحدث مع الملاك بدون خجل أو استحياء أو خوف . لقد كانت بشارة الملاك جبرائييل لها فريدة من نوعها ولم يسبق حدوثها ، وهذا ما سبب اندهاش القديسة العذراء مريم ، ولكنها قبلت البشارة بانسحاق واتضاع وبفرح قلبي وتهليل روحي لأنها وجدت نفسها أمام بشارة بأنها ستكون أما للابن العلي الذي يعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ، وأنه سيكون ملكا يملك علي بيت يعقوب إلي الأبد ولا يكون لملكه نهاية . كما أنه يبدو من حديثها مع الملاك أنها كانت تريد أن تكون عذراء وتعيش حياة البتولية كل أيام حياتها ، لأنها سألت الملاك" كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا " ولو كانت عندها الرغبة في الزواج  لقالت للملاك " ومتي يكون لي هذا " .

ومع أن البشارة من الملاك للقديسة العذراء مريم بأنها ستصبح "أم لابن الله" ، لكنها لم تتكبر وتتعالي ويصيبها تشامخ الروح لذلك قالت بروح التواضع والاتضاع والانسحاق   " هوذا أنا أمة الرب . ليكن لي كقولك " .




البـــاب الـخـامـــس

الـزيـــارة



أولا : الـزيــارة لإلـيـصـابـــات :

بمجرد سماع القديسة العذراء مريم بشارة الملاك جبرائيل الواقف أمام الله ، الذي قال لها  " الروح القدس يحل عليك  وقوة العلي تظللك فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعي ابن الله . وهوذا إليصابات نسيبتك هي أيضا ‘حبلي بابن في شيخوختها وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقرا . لأنه ليس شيئ غير ممكن لدي الله ." (لوقا35:1-37) . فبعد أن مضي من عندها الملاك ذهبت بسرعة إلي الجبال إلي مدينة يهوذا مسيرة عدة أيام ، لا لكي تتحقق من كلام الملاك ، بل لكي تقوم بواجب التهنئة ومشاركة إليصابات وزكريا الكاهن فرحتهم بالحبل بعد أن كانت إليصابات عاقرا وكلاهما متقدمين في السن ، وأيضا لكي تقوم بتقديم الخدمة والعون أثناء فترة الثلاث شهور الأخيرة من حبلها . فلما دخلت القديسة العذراء مريم بيت زكريا سلمت علي إليصابات ، "فلما سمعت إليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها . وامتلأت إليصابات من الروح القدس . وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك . فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ . فهوذا حين صار صوت سلامك في أذني ارتكض الجنين بابتهاج في بطني . فطوبي للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب " (لو41:1-45) .

لقد كان ارتكاض الطفل بابتهاج في بطن إليصابات لأنه امتلأ من الروح القدس هو وأمه بمجرد سماع سلام القديسة العذراء مريم ، وقد علم بالروح القدس الممتلئ به وهو في بطن أمه أنه أمام ملك الملوك ورب الأرباب الله المتجسد في بطن العذراء مريم .  كذلك إليصابات الممتلئة من الروح القدس ، فقد أعلمها الروح القدس أن التي أتت إليها ليست هي فقط بنت خالتها ، بل هي أم ربها وإلهها وأن الذي في بطنها هيّ هو عبده ورسوله الذي سيعد الطريق أمامه ، لذلك تنبأت وقالت للعذراء مريم " مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك . فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليّ " كما قامت بتطويبها وقالت  "فطوبي للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب " ، فهي بهذه العبارة تعطي التطويب للعذراء مريم لأنها لم تشك في بشارة الملاك بل آمنت من كل قلبها بما قيل لها . ومن عظمة القديسة العذراء مريم أنها نسبت كل هذا إلي الله مخلصها وقالت تسبحتها المشهورة " تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي . لأنه نظر إلي اتضاع أمته . فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني . لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس . ورحمته إلي جيل الأجيال للذين يتقونه . صنع قوة بذراعه . شتت المستكبرين بفكر قلوبهم . أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين . أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين . عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة . كما كلم آباءنا . لإبراهيم ونسله إلي الأبد." (لو46:1-56) .

العذراء مريم سبحت ومجدت الرب ، لأنه أعطاها كرامة وعظمة ومجدا لم يأخذهم  أي إنسان من قبل ، وكانت من تواضعها تشعر في أعماق نفسها أنها لا تستحق كل ذلك ، فقد رفع من مقامها لتصبح أم الله المتجسد .

أظهرت شكرها وامتنانها وتعظيمها لله بفمها وأيضا بروحها إذ ابتهجت روحها بالله مخلصا لها " تبتهج روحي بالله مخلصي ". وأوضحت أنه مع أنها أم الله إلا أنها محتاجة لخلاصه لأنها مولودة تحت الناموس وقد ورثت خطية آدم وحواء الأصلية . وقد دعت الله مخلصها لأنه هو الرب الذي سوف يخلص شعبه من خطاياهم بموته علي الصليب ليفديهم . وقدمت الشكر لله وقالت "لأنه نظر إلي اتضاع آمته " ، وهي بذلك تود أن تقول أن الله نظر إلي ذلها ورفعها وأعطاها مكانة عالية أن تكون أم الله ، وبذلك أظهرت تولضعها ووداعتها بأن نسبت كل الفضل لله .

بعد ذلك تنبأت عن تطويب وتعظيم جميع الأجيال لها فقالت " هوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني" فقد طوبتها المرأة التي سمعت تعاليم المسيح المحيية ورأت معجزة إخراج الشيطان من الرجل الأخرس وشفائه ، فصرخت قائلة " طوبي للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما " (لو27:11) .

ثم بدأت السيدة العذراء تمجد الله وتعدد أعمال قوته فقالت " صنع قوة بذراعه " والذراع هنا تشير إلي القدرة في العمل  كقول المرنم بالمزمور " يمين الرب مرتفعة . يمين الرب صانعة ببأس " (مز 16:118) ، وكقول معلمنا إشعياء النبي " هوذا السيد الرب بقوة يأتي وذراعه تحكم له .  هوذا أجرته معه وعملته قدامه . كراع يرعي قطيعه . بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها ويقود المرضعات ." (إش 10:40-11) .

ثم قالت أن الله شتت المستكبرين بفكر قلوبهم واذلهم ، وهو نفس المعني في قول معلمنا بطرس الرسول " لأن الله يقاوم المستكبرين وأما المتواضعين فيعطيهم نعمة ." ( 1بط 5:5)  .

 ثم قالت القديسة العذراء مريم أن المتكبر والمتشامخ الروح يسقط ، لأن الكبرياء هي رفض لعطايا الله ، أما المتضع فيرتفع لأن الاتضاع هو قبول لعطايا الله من أجل تمجيد الله في خدمته ، إذ قالت " أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين " وهو نفس المعني في المزمور "المقيم المسكين من التراب الرافع البائس من المذبلة. ليجلسه مع أشراف شعبه ." (مز 7:113-8) .

لقد أوضحت القديسة مريم أن الله قد حفظ وعده لإبراهيم بقوله " أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيرا كنجوم السماء وكالرمل الذي علي شاطئ البحر ويرث نسلك باب أعدائه . ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض . من أجل أنك سمعت لقولي" (تك 16:22-18) . وقد ادركت القديسة العذراء مريم أن المسيح له المجد بميلاده سوف يتمم كل هذه الوعود . ومن عظمة القديسة الطاهرة مريم أنها قد عرفت رسالة ابنها قبل مولده . وهذه بعض مواعيد الله للمؤمنين به فاديا ومخلصا : (2صم 50:22-51)، (مز 2:89-4) ، (مز10:103-14 ، 17-18) ،( مي18:7-20) .

ظلت القديسة العذراء مريم تخدم إليصابات قرابة الثلاث أشهر وتركتها قبل ولادة يوحنا ، وعادت إلي بيتها بالناصرة .

ثانيا : الـزيـــارة لـلـهـيـكـــل :

لقد حرصت القديسة العذراء مريم ويوسف النجار علي اتمام شريعة الله التي أعطاها لموسي النبي عند ميلاد ابنها البكر الصبي ربنا يسوع المسيح  ، فلما تمت ثمانية أيام ختنوا الصبي " وسموه يسوع كما سمي من الملاك قبل أن ‘حبل به في البطن " (لو21:2) . لقد قبل الختان في جسده الطاهر ليكون رمزا للدخول في عضوية شعب الله ، وقد كان  قطع الغرلة في العهد القديم لكل ذكر يهودي رمزا لانتزاع الشر والدخول في عضوية شعبه بني إسرائيل .  وقد خضع السيد المسيح  للناموس لأنه مولودا تحت الناموس (غل4:4 ) مع السماوي والروح القدس وليس محتاجا لإتمام هذا الأمر ، لكن تممه لكي يعلمنا الخضوع للناموس وتنفيذ الوصية.     

وقديما قال الرب " ويكون متي أدخلك الرب أرض الكنعانين كما حلف لك ولآبائك وأعطاك إياها أنك تقدم للرب كل فاتح رحم وكل بكر من نتاج البهائم التي تكون لك . الذكور للرب . ولكن كل حمار تفديه بشاة . وإن لم تفده فتكسر عنقه . وكل بكر إنسان من أولادك تفديه ." (خر 11:13-13). تفدي كل بكر من اولادك بأن تقدمه للهيكل ، ليكون مخصصا للرب كنوع من إظهار الشكر والامتنان لله . الله من عظمة جوده ، استبدل الابكار باللاويين (عد12:3)، وجعل الطفل يعود مع والديه إلي بيتهم ، وهذا ما اختبره أبونا إبراهيم منذ زمن طويل . وكما هو مكتوب في ناموس الرب أن "كل ذكر فاتح رحم يدعي قدوسا للرب " (خر2:13) إشارة للسيد المسيح قدوس القديسين . و كما قيل في ناموس الرب يقدموا ذبيحة زوج يمام أو فرخي حمام " (لو 23:2-24) . وقد قدمت القديسة العذراء مريم تقدمة الفقراء وهي زوج يمام . وهي  ممتلئة بالفرح  والبهجة والسرور ، لأنها ليست فقط مثل حنة التي أعطت ابنها صمؤيل ليخصص ويكرس لخدمة الرب  في الهيكل كل أيام حياته . الله الآب كان يريد شيئا أثمن من هذا بكثير جدا ، أراد ابنها وفلذة كبدها ليكون هو التقدمة في الموعد الذي يحدده . كل هذا وهي لا تعلم أنه بعد ثلاثة وثلاثين سنة ونصف ، طبقا للخطة للتدبير الإلهي الأزلي  ، ‘يقدم  ابنها ربنا يسوع ذاته ليكون هو الفداء والحمل المذبوح ليموت علي الصليب ، مذبح الجلجثة ، من أجل خلاص العالم كله من خطاياهم الموروثة ، فقد ملأ الحزن والأسي والمرارة قلب القديسة مريم وهي تري وحيدها الذي حمل في جسده الطاهر المعلق علي خشبة الصليب كل خطايا العالم وأيقنت أمنا القديسة مريم أنه بذلك تحققت  نبوة سمعان الشيخ القائلة  " وأنت يا مريم يجوز في نفسك سيف ."(لو35:2)

ويا لغبطة وسعادة القديسة العذراء مريم حينما حان الوقت لتأخذ ابنها  إلي الهيكل وتقدمه للرب هناك وأيضا تقدم ذبيحة للرب ، وهي حاملة إياه بين أحضانها، وهي تعلم أنه " ابن الله "كما بشرها الملاك وأيضا ما قيل لها من "الرعاة المتبدين" الذين يقيمون في الحقول يتناوبون الحراسة ليلا للأغنام التي تقدم منها ذبائح طوال السنة في الهيكل . وكان الكهنة يفحصونها . والرعاة المتبدين الذين كانوا يسهرون يحرسون حراسة  الليل فجأة  وقف بهم ملاك الرب ومجد الرب أضاء حولهم ، ولما خافوا " قال لهم الملاك لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. أنه اليوم ولد لكم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب . وهذه لكم العلامة تجدون طفلا مقمطا مضطجعا في مذود . وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام وبالناس المسرة . " (لو10:2-14)، ظهور الملاك كان لكرازة وتبشير الرعاة ، والرعاة يكرزون ويبشرون الشعب بمولد مخلص هو المسيح الرب في مدينة داود ، الذي بمولده يكون فرح عظيم لجميع الشعب  . وقول الملائكة " المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام وبالناس المسرة " (لو14:2) ففي الأعالي لا توجد خطية والسمائين يعطون المجد والتسبيح لله علي الدوام وهم ساجدين وخاضعين في حب . فبعد أن سادت الخطية والعصيان وغضب الله علي الإنسان الساكن علي الأرض ، جاء المسيح ملك السلام ليعطي السلام لساكني الأرض ، فبالفداء صارت المسرة بعودة الإنسان ، الإبن الضال  إلي حضن الآب السماوي ، ولذلك قال الآب السماوي يوم عماد السيد المسيح في نهر الأردن" هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت " (مت17:3). وقد نسب الملاك وجمهور الجند السمائين المجد للثالوث الأقدس : فالمجد لله الآب السماوي في الأعالي ، والمجد لله الابن الذي أخلي ذاته ونزل وتجسد آخذا صورة عبد ليعطي السلام والخلاص للبشر ، والمجد لله الروح القدس الذي حل علي التلاميذ وكل المجتمعين معهم بعد أن تمجد المسيح علي الصليب ، وبعد أن صعد إلي السماء في اليوم الأربعين بعد قيامته ، وفي اليوم الخمسين أرسله منبثقا من الله الآب .

 عندما أخذت العذراء مريم الطفل يسوع " ابن الله"  للهيكل لم يخطر ببالها أنه سيختلف عنهما وما قاله السيد المسيح بعدما وجداه " أما تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي" (لو49:2) ، لأنها أخذته فقط لتتم الناموس ..  و يا للعجب فهناك في هذا الهيكل أثناء خدمة الرب يسوع العلنية وتحديدا وقت عيد التجديد، أخذ الشعب حجارة ليرجموه ويطردوه خارجا ، وقد كان ذلك عندما أظهر لهم حقيقته أنه هو الله  بقوله لهم " أنا والآب واحد " (يو30:10) .

لقد كانت الزيارة للهيكل تتميما لشريعة التي تلد ذكرا أو أنثي (لا7:12)  ، وهي في حد ذاتها تقديم ذبيحة عبارة عن زوج يمام (للفقراء) ، الواحد محرقة والآخر ذبيحة خطية فيكفر عنها الكاهن فتطهر (الأم التي ولدت) (لاو8:12)، وفي هذه اللحظات كشف الله عن السيف الذي يجوز في نفس العذراء مريم ، الذي ‘نطق به علي فم سمعان الشيخ الذي تكلم بهذه النبوة ، ثم سبح الله وطلب منه أن يطلقه بسلام لأن عينيه قد أبصرتا خلاصه الذي  أعدده قدام وجه جميع الشعوب. " نور إعلان للأمم ومجدا لشعبك إسرائيل "، فالمسيح له المجد جاء نورا ‘أعلن للأمم السالكين في الظلمة وظلال الموت ، ومجدا لكل من يؤمن به ربا ومخلصا. وكان يوسف وأمه يتعجبان مما قيل فيه . وباركهما سمعان ... . لتعلن أفكار من قلوب كثيرة " (لو32:2-35) . بارك سمعان الشيخ السيدة العذراء مريم ويوسف النجار ،  ولكنه لم يبارك ربنا يسوع المسيح لأن الرب هوالذي يبارك كل العالم .

" لتعلن أفكار من قلوب كثيرة " فقد ‘أعلنت المؤمرات التي حاكها رؤساء الكهنة اليهود ضد ربنا يسوع المسيح لكي يقدموه للمحاكمة ويصلبوه والتي كشفت نفاق ورياء أفكار رؤساء الكهنة الشريرة والذين كانوا يتظاهرون بالتقوي والقداسة وهم مراؤن ويحاولون أن يقنعوا الشعب أن لهم غيرة شديدة علي الشريعة ، ويتظاهرون بأنهم يعملون علي حفظ الناموس .

ثالثا : زيـــارة الـمـجـــوس :

   ولد المسيح له المجد سنة 4 ق.م . لأن التقويم الميلادي أغفل ثلاث سنوات ونصف من عمر السيد المسيح ، فالعلماء أخطأوا عند تحويلهم الحسابات من التقويم القمري (المصري القديم) إلي التقويم الشمسي (الميلادي الحديث) .

   "ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلي أورشليم قائلين أين هو المولود ملك اليهود . فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له . فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه . فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم أين يولد المسيح . فقالوا له في بيت لحم اليهودية . لأنه هكذا مكتوب بالنبي . وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغري بين رؤساء يهوذا . لأن منك يخرج مدبر يرعي شعبي إسرائيل ." (مت 1:2-6) ، (إش2:60-3) ، (عد 17:24).

   عين الرومان هيرودس الكبير ملكا علي اليهودية سنة 37 ق.م. وهو من ابوين ادوميين . وقد اعتنق الأدوميين  اليهودية بالقوة سنة 125 ق.م. ، وبدأ هيرودس الكبير في إعادة بناء الهيكل بأورشليم سنة 20 ق.م. ، وهو الذي أمر بقتل أطفال بيت لحم من ابن سنتين فما دون  ، حتي لا ينافسه الملك مولود بيت لحم . وقد ولد المسيح له المجد في آواخر أيام ملك الملك هيرودس الكبير ، وقد مات بعد قتله أطفال بيت لحم بفترة وجيزة .

بيت لحم هي مدينة الملك داود التي مسحه فيها صموئيل النبي ملكا علي إسرائيل، وفيها ولد المسيح له المجد من نسل داود الملك . حينما ولد المسيح له المجد هتفت الملائكة بالمجد والتسبيح لله قائلين " المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام وبالناس المسرة " (لو14:2) كما هتفت سابقا عندما خلق الله العالم (أي7:38) . المجوس هم مجموعة من العلماء يدرسون الفلك والنجوم  وهم يتبعون مذهب بلعام الذي تنبأ بمجئ المسيح كما هو مكتوب " أراه ولكن ليس الآن. أبصره ولكن ليس قريبا . يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل فيحطم طرفي موآب ويهلك كل بني الوغا. " (عد17:24) ، وقد أتوا من بلاد فارس ( إيران حاليا) يتقدمهم النجم في السماء حتي وصلوا إلي أورشليم ، وسألوا "أين هو  المولود ملك اليهود . فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له "(مت 2 :2 ) ، مما يوضح لنا أن المولود ملك اليهود الذي رأي المجوس نجمه في المشرق قد جاء للعالم كله يهودا وأمم ، ولكن اليهود رفضوه أما الأمم فقد قبلوه ، فالمسيح له المجد جاء لكل من يؤمن به ويقبله فاديا ومخلصا ، فالرعاة أتوا مسرعين ليروه وآمنوا به كذلك المجوس الذين أتوا من بلاد بعيدة آمنوا به وسجدوا له وقدموا هدايا  ذهبا ولبانا ومرا . الرعاة تركوا رعيتهم والمجوس تركوا بلادهم  ، فلنترك نحن شهواتنا العالمية ونركز أنظارنا علي المسيح المخلص والفادي لكي نراه  بعين الإيمان  في الكتاب المقدس لأنه  " سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي " (مز105:119) ، ولذلك فإن الكنيسة تضع في شرقية الهيكل في حضن الآب قنديلا مضيئا إشارة للنجم الذي يهدينا إلي أحضان  الآب الذي أعادنا إليها الابن، فنراه علي المذبح في سر الافخارستيا . أليس هذا غريبا أن رؤساء الكهنة الذين يعرفون النبوات وتفسيراتها لم يهتموا بالبحث عنه خوفا علي مناصبهم ، وحبهم للمال قد أعمي عيونهم فلم يروه ولكن رعاة الأغنام جاءوا مسرعين يبحثون عن المسيح المخلص فوجدوه ورؤه وآمنوا به . الرعاة الساهرين أتت الملائكة لترشدهم ، هكذا كل ساهر علي خلاص نفسه الروح القدس الساكن فيه سيرشده وسيجد المسيح ويراه بروح الإيمان .

كانت نبية حنة بنت فنوئيل من سبط أشير أرملة بعد زواج دام سبع سنين ، أرملة نحو 84 سنة لا تفارق الهيكل (لو39:2)وكانت متقدمة في العمر لا تفارق الهيكل  عابدة بأصوام وطلبات ليلا ونهارا ، وكانت متقدمة في أيام كثيرة (لو36:2) عندما دخل ربنا يسوع المسيح الهيكل." فهي في تلك الساعة وقفت تسبح الرب وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم" (لو38:2) . وكان انتظارهم فداء في أورشليم بناء علي نبوة دانيال النبي التي تحدد زمان موت المسيح (دا25:9-26) { لمزيد من المعلومات أنظر كتابنا المسيح بين العهدين صفحة 36} .



رابعــا : الـزيـــارة لـمـصــــر:

   زيارة ربنا يسوع المسيح وأمه القديسة العذراء مريم ومعهما القديس يوسف النجار وسالومي إلي أرض مصر كانت زيارة مملؤة بركات روحية لمصر ولشعب مصر كقول رب الجنود " مبارك شعبي مصر " (إش25:19) ، فقد أقام الله في وسط أرض مصر الوثنية في ذلك الزمان مذبحا للرب (إش19:19) في دير المحرق بأسيوط لتصبح مصر مركز اشعاع للإيمان المسيحي في العالم ، وكانت مصر بركة ومنارا علميا ودينيا للعالم كله من خلال مدرسة الإسكندرية وأصبحت رائدة للعالم من خلال الرهبنة المسيحية وانتشار العديد من الأديرة للرهبان والراهبات  في ربوع مصر . وقد كانت الزيارة في واقع الأمر هروبا من وجه الطاغية الملك هيرودس الكبير بناء علي أمر ملاك الرب للقديس يوسف النجار في حلم قائلا "قم خذ الصبي وأمه واهرب إلي أرض مصر وكن هناك حتي أقول لك ، لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه " (مت13:2) . هروب العائلة المقدسة كان تدبيرا إلهيا لكي يعلمنا دروسا في حياتنا ، وهو أن نهرب من وجه الأشرار ومن شرهم ، ولا نصطدم بهم في حياتنا ، وألا نقاوم الشر بالشر ،  نتجنب التواجد في أماكن الشر ونترك  الأمر لله الذي وعدنا  بأن " الرب يقاتل عنكم  وأنتم تصمتون"(خر 14:14) ، كذلك " لي النقمة أنا أجازي يقول الرب " (رو19:12) . وهذا ما يؤكد بما لا يدع مكانا للشك حقيقة تجسد ربنا يسوع المسيح في ملء الزمان .

الهروب إلي أرض مصر يمثل فصلا من فصول الألم الممتزج بالفرح التي اجتازت فيها القديسة العذراء مريم أثناء حياتها علي الأرض ، لم تعارض أو تحتج أو تتذمر، بل تنفذ في تسليم كامل لله ولمشيئته الصالحة . فكانت القديسة العذراء مريم مطيعة لله ولكلمات الملاك التي حملها في حلم للقديس يوسف النجار والذي قال له " قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلي أرض مصر وكن هناك حتي أقول لك . لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه . فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلي مصر " (مت 13:2-14) . إن الله يدبر دائما حياة القديسين والأبرار يحميهم ويحرسهم من الأشرار الذين يضطهدونهم ويزعجونهم ، فمهما كانت التجارب والضيقات والآلام تكون نهايتها النصرة والفرح . فالحياة هي مزيج مستمر من الأتعاب والضيقات والآلام تأتي بعدها الأفراح يسمح بها الله لأجل تزكيتنا ومساندتنا روحيا ونفسيا ، فبالضيق نمتلئ بالرجاء ونتزكي أمام الله ، وبالفرح  نزداد صبرا وبالصبر تعزية وبالتعزية نمتلئ ثقة في وعود الله الصادقة ورعايتة وعنايته بنا .

   " حينئذ لما رأي هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جدا . فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس . حينئذ تم ما قيل بالنبي القائل . صوت سمع في الرامة نوح وبكاء وعويل كثير . راحيل تبكي علي أولادها ولا تريد أن تتعزي لأنهم ليسوا بموجودين " (مت 16:2) .

كان لقتل أطفال بيت لحم بواسطة  الملك هيرودس الكبير ارتباط كبير بحياة مخلصنا وفادينا الرب يسوع المسيح ووالدته القديسة العذراء مريم ، لذلك سجل الوحي الإلهي هذا الحدث في كلا العهدين ، العهد القديم في (إر15:31) والعهد الجديد في (مت 16:2) .

     بخصوص نبوة إرميا النبي (إر15:31) ، راحيل كانت عاقرا تطلب نسلا  "هب لي بنين وإلا فأنا أموت " (تك1:30) ، واستجاب الله لها فأنجبت يوسف وبنيامين . يوسف أنجب افرايم الذي كان يمثل إسرائيل مملكة العشرة أسباط ، وبنيامين  كان يمثل اليهودية مملكة السبطين (سبط يهوذا وسبط وبنيامين ). لذلك تخيل إرميا النبي راحيل وكأنها مازالت حية تراقب وتري جماعة الشعب التي ‘جمعت في الرامة تمهيدا لنقلهم للسبي ، وهي هنا يصورها إرميا النبي أنها تنوح علي أولادها (نسلها) من كلا المملكتين . لأن المجموعة الأولي كانت إسرائيل التي سترحل إلي سبي أشور " التي أسكنهم ملك أشور في حلح وخابور نهر جوزان وفي مدن مادي" (2مل 5:17-6) .  والمجموعة الثانية التي سبيت كانت يهوذا لأن جميع رؤساء الكهنة والشعب تمادوا في خيانة الرب ونجسوا بيت الرب الذي قدسه في أورشليم ." فأصعد الله عليهم ملك الكلدانين فقتل مختاريهم . ... وأحرق بيت الله وهدموا سور أورشليم . ... وسبي الذين بقوا من السيف إلي بابل فكانوا له ولبنيه عبيدا إلي أن ملكت مملكة فارس . ... لإكمال سبعين سنة." (2أي17:36-21) .

   أما القديس متي الرسول فقد تصور أن راحيل زوجة يعقوب أبو الآباء بأنها تبكي علي أولادها  ( أحفاد نسلها) لأنهم ليسوا بموجودين ، وهو تعبير مجازي وكناية لغوية عن ذبح أطفال بيت لحم من سن سنتين فما دون ، علي يد الملك هيرودس الكبير. وقد كان لهذا الحدث ارتباط كبير بالخلاص الذي قدمه الرب يسوع المسيح علي الصليب . وكان للآباء والأمهات لهؤلاء الأطفال نصيب من الحزن والألم والأسي علي ذبح أطفالهم مثلما كان لأمنا القديسة مريم لمحاكمة وصلب ربنا يسوع المسيح علي الصليب كقول سمعان الشيخ لها " وأنت يجوز في نفسك سيف"، سيف الحزن والألم والأسي علي وحيدها . فقد قدم هؤلاء الأطفال الأبرياء عملا كرازيا وشهادة أمام العالم كله تتناقله الأجيال ، فهم يمثلون ابكار الكنيسة المجاهدة علي الأرض التي تقدم دائما شهدائها عربونا للميراث الأبدي الذي وهبه الله للذين يتقونه والذين هم علي أتم استعداد أن يجاهدوا حتي الدم . فالمسيح له المجد كان يحب الأطفال وهو الذي قال " دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات " (مت14:19) .

خـامـســـا : الـعـــودة مـن مـصـــر إلـي الـنــاصـــرة   :   "وإذ أوحي إليه في حلم . انصرف إلي نواحي الجليل . وأتي وسكن في مدينة يقال لها ناصرة . لكي يتم ما قيل بالأنبياء أنه سيدعي ناصريا " (مت22:2-23).

استقر القديس يوسف النجار ومعه القديسة العذراء مريم وابنها في الناصرة موطنهم القديم   . فالناصرة بلدة صغيرة وفقيرة سمعتها ليست طيبة ، وهذا ما سجله انجيل القديس يوحنا البشير " فيلبس وجد نثنائيل وقال له وجدنا الذي كتب عنه موسي في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة . فقال له نثنائيل أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح ." (يو45:1-46) . كما أن منطقة الجليل كلها كانت منطقة قليلة الأهمية كما هو موضح من قول نيقوديموس لأعضاء مجمع السنهدريم أثناء محاكمة الرب يسوع " ألعل ناموسنا يدين إنسانا لم يسمع منه أولا ويعرف ماذا فعل . أجابوا وقالوا له ألعلك أنت من الجليل . فتش وأنظر انه لم يقم نبي من الجليل "(يو51:7-52) . ومع هذا فقد اختار الرب يسوع تلاميذه من الجليل ، لأن الرب يسوع ينظر إلي القلب وليس للمظاهر الخارجية والعظمة الزائلة لكي يعلمنا ألا نستكبر بسبب مركزنا الاجتماعي أو ميراثنا العائلي أو غنانا وثروتنا لأن هذا كله إلي زوال كقول معلمنا سليمان الحكيم والملك " باطل الأباطيل قال الجامعة . باطل الأباطيل الكل باطل . ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس"( جا2:1-3) . وقد دعي السيد المسيح ناصريا نسبة إلي بلدة الناصرة ، لكي يتم ما قيل بالأنبياء " أنه سيدعي ناصريا " (مت23:2)  ، والتي بها لقب المسيحين نصاري لأننا نتبع الناصري ، كما لقب السيد المسيح في النبوات بالغصن . فالغصن يزهر وينتج ثمرا كثيرا لأنه ثابت في ساق الكرمة ويتغذي منها ولذلك لاييبس ولا يقطع، فقد جاء في إشعياء النبي " ويخرج قضيب من جذع يسي وينبت غصن من أصوله ويحل عليه روح الرب روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب"(إش 1:11-2). كما جاء في نبوة إرميا النبي " ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن بر فيملك ملك وينجح ويجري حقا وعدلا في الأرض "(إر 5:23)، " في تلك الأيام وفي ذلك الزمان أنبت لداود غصن البر فيجري عدلا وبرا في الأرض" (إر15:33) ، كذلك في نبوة زكريا النبي " لأني هانذا آتي بعبدي الغصن ." (زك8:3) ، "هكذا قال رب الجنود قائلا .هوذا الرجل الغصن اسمه ومن مكانه ينبت ويبني هيكل الرب " (زك12:6) ، ولذا كان اليهود يترقبون مجئ المسيا المنتظر المدعو الغصن الناصري من نسل داود الملك .

   لقد اختار الله هذه العذراء الصغيرة اليتيمة لتكون أعظم أم في الوجود ، فهي سيدتنا ووالدتنا كلنا وأم البشرية كلها ، حواء الثانية التي بواسطة القدوس المولود منها انتقلنا من الموت إلي الحياة وبصليب ابنها تحولت العقوبة لنا خلاصا ، فهي الملكة القائمة عن يمين الملك ، العروس بلا زواج ، السيدة العذراء البتول كل حين التي عندما نقول عنها لفظ  " السيدة " فهو لفظ تكريم وتقدير واحترام كقولنا السيد المسيح للدلالة علي السيادة والتبجيل والاحترام والتكريم .

الـبـــاب الـســـادس

مرافقة  مريم العذراء للمسيح

في طفولته وشبابه



     عادت العائلة المقدسة إلي أرض إسرائيل بعد إقامه قصيرة في دير المحرق بمدينة أسيوط بصعيد مصر . دامت هذه الإقامة قرابة الأربع سنوات، بناءا علي ظهور ملاك الرب في حلم للقديس يوسف النجار وهو في مصر " قائلا قم خذ الصبي وأمه واذهب إلي أرض إسرائيل " (إش20:2). وكان القديس يوسف النجار يرغب في العودة إلي بيت لحم ، ولكنه ذهب إلي الناصرة مع الطفل يسوع وأمه مريم ، كما أوحيّ إليه في حلم . فقد اختار الله  الناصرة مع أن سمعتها سيئة لكي يقطن فيها ابنه الوحيد الجنس ، القدوس الخالي من الخطية والذي تنازل من سماء مجده وحل بيننا ليسكن في الناصرة . وكم كان قاسيا علي الطفل يسوع ليعيش وسط أطفال الناصرة ، وكم كان صعبا علي أمه مريم  لتشارك طفلها معاناته . فالوالدين دائما يعانون كثيرا عندما يكون فلذة أكبادهم مختلفين عن بقية الأطفال فيعاملونهم كغرباء ، لأنهم يسلكون في طريقهم وحيدين بدون أصدقاء مقربين لهم لأن لا أحد يستطيع أن يفهم طبيعتهم . وكان هذا هو الحال مع الصبي يسوع لأن قلبه وروحه كانا دائما متعلقين بأبيه السماوي الذي يحبه ، كان من الصعب علي الصبي يسوع أن يختلط مع الأطفال الأشقياء الخطاة لأنهم وارثون للخطية الجدية ، فكان هناك عدم انسجام وتنافر وربما بغضاء من جهتهم نحوه ، مع أنه كان يحبهم محبة إلهية . وقد اختار الله لهم الناصرة وكان ذلك لكي تتم نبوة إشعياء النبي عن المسيح  القائلة أنه " سيدعي ناصريا ". وقد ترعرع الصبي يسوع المسيح في الناصرة تحت رعاية والدته القديسة العذراء مريم والقديس يوسف النجار الذي تحمل المسئولية البشرية لحماية هذه العائلة المقدسة ، فقد كان بمثابة الحارس الأمين المسئول عن سلامة الصبي ربنا يسوع المسيح ووالدته ، كما كان أيضا هو الرجل الوحيد العائل لهذه العائلة المقدسة ماديا وأدبيا واجتماعيا طوال فترة حياته علي الأرض، يعمل نجارا (مت 55:13) لسد كل احتياجاتهم . فقد حدد الله ليوسف النجار الرجل البار (مت19:1) عمله ودعاه فاستجاب وأطاع في صمت تام ، وهو يعتبر مثالا يحتذي به في إتمام مقاصد الله مثله مثل أبونا إبراهيم أبو الآباء (تك1:12-3) .  " وكان الصبي ينمو ويتقوي بالروح ممتلئا حكمة وكانت نعمة الله عليه " (لو 40:2) .    كان من الممكن أن تكون المسئولية الواقعة علي العذراء مريم كأم تري ابنها ينتقل من مرحلة الطفولة إلي مرحلة الشباب مسئولية كبيرة ، ولكن علي النقيض من ذلك ،  فطبيعة ابنها تختلف تماما عن طبيعة الآخرين ، فطبيعة ابنها كانت تحيط بها هالة من الطهارة والعفة والقداسة ، وكان لهذا أثره  في امتلائها بالوقار نحوه وأيضا عبادته قلبيا في صمت لاعتقادها التام  بأن هذا هو بالحقيقة ابن الله ، لأن مواهب القداسة الظاهرة فيه تخالف تماما ناموس الطبيعة ولا يمكن أن تظل مخفية . فقد كانت نعمة الله حالة عليه ، وكلمات الحكمة الإلهية كانت تنساب من  شفتيه كما سجلها لنا القديس لوقا البشير " وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه ويقولون أليس هذا ابن يوسف." (لو22:4) .

" وأما يسوع فكان يتقدم  في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو52:2).     طوباك ايتها القديسة العذراء مريم الأم  الطاهرة التي ائتمنها الله لتكون أما لابنه الوحيد الجنس وسمح له ليتربي كطفل في منزلها. فالبشرية كلها لم تسمع مطلقا عن إنسانا سبق له أن تلقي هدية ثمينة وعظيمة جدا من الله ذاته غير القديسة العذراء دائمة البتولية مريم بولادتها الطفل يسوع الله الكلمة المتجسد.  كانت القديسة العذراء مريم الخادمة الأولي لسر التجسد الإلهي ، ولذلك تلقبها الكنيسة بالسماء الثانية ، وكان القديس يوسف النجار أيضا خادما أمينا لسر التجسد الإلهي ، تعب وجاهد وتحمل المشقات من أجل إتمام المهمة التي كلف بها من قبل الله . ولم يتهرب من هذه المسئولية وكانت القديسة مريم تعاونه في ذلك . المسيح له المجد مدخرة فيه كل كنوز الحكمة والعلم (كو3:2) لذلك  لما كانت له اثنتي عشرة سنة صعدوا إلي أورشليم كعادة العيد . ... . وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالسا في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم . وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته " (لو42:2-47) . لقد تعجب اليهود من معرفة المسيح وقالوا "كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم " (يو15:7) ، أي أنه لم يجلس تحت أقدام المعلمين الكبار أمثال غمالائيل (أع3:22) حتي يتعلم هذه المعرفة في الناموس والتوراة. لأنهم لم يكونوا يعلمون أنه هو الله الظاهر في الجسد وهو واحد مع الآب السماوي والروح القدس ، وليس محتاج الي أي تعليم بشري لأنه هو واضع الناموس ومكمله ، والتوراة مطبوعة في قلبه وفكره ككتاب مفتوح ، " وأما يسوع فكان يتقدم  في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو52:2) .  كذلك علم القديس يوسف ربنا يسوع المسيح حرفة النجارة وكان يساعده حتي يوم نياحته عن عمر 111عاما ، وكان ربنا يسوع المسيح في السادسة عشر من تاريخ ظهوره في الجسد . بعدها تولي ربنا يسوع العمل في النجارة بمفرده (مر3:6) حتي يوم عماده من القديس يوحنا المعمدان في الأردن (مر9:1-11).



الـبـــاب الـســـابـــع

مـرافـقـــة الـعـــذراء مـريـــم لـلـمـسـيـــح

في كـرازتـــه



   لقد أظهر السيد المسيح مجده وسلطان لاهوته في أول معجزة يصنعها في عرس قانا الجليل بناء علي شفاعة أمه القديسة مريم ، كما هو مكتوب "وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك. ودعي أيضًا يسوع وتلاميذه إلى العرس. ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر. قال لها يسوع ما لي ولك يا امرأة لم تأت ساعتي بعد. قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه. وكانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود يسع كل واحد مطرين # أو ثلاثة. قال لهم يسوع أملأوا الأجران ماء فملأوها إلى فوق. ثم قال لهم استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ فقدموا. فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرًا ولم يكن يعلم من أين هي . لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا . دعا رئيس المتكأ العريس وقال له . كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولًا ومتى سكروا فحينئذ الدون أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن. هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل واظهر مجده فآمن به تلاميذه." (يو1:2-11). _____________________________________________  


  # المطر وحده لقياس السوائل تعادل 22.75 أقه 

 تقرأ هذه الأعداد من الاصحاح الثاني من البشارة حسب ما كتب معلمنا يوحنا البشير في اليوم الثالث لعيد الظهور الإلهي الموافق 22 يناير. كما يذكر الكتاب المقدس "وفي اليوم الثالث.." ويعتبر هذا هو اليوم الأخير من عيد الظهور الإلهي (عيد الغطاس ) فقد أظهر السيد المسيح مجده وقوة لاهوته فآمن به تلاميذه الذين اصطحبهم معه وهم أندراوس ويوحنا وبطرس ويعقوب وفيلبس ونثنائيل فهو أظهر لهم أنه ابن الله الخالق الذي حول الماء وخلق منه خمر العهد الجديد، فهو سر الفرح بالخلاص الذي قدمه ربنا يسوع المسيح لكل من يؤمن به .

   عرس قانا الجليل كان بداية الآيات التي أظهر فيها الرب مجده وسلطان لاهوته ، وهو عيد سيدي صغير.

ونلاحظ هنا أن بدء خدمة المسيح كان في عرس فملكوت السموات يشبه عرس كما ورد في (مت2:22-14+ مت1:25-13 + مر18:2-20) ، وفي نهاية الأيام سيكون عشاء عرس الخروف (رؤ7:19-9). فالمسيح هو عريسنا. هو عريس الخليقة الجديدة التي أتى ليؤسسها. الخمر يشير للفرح. والشعب اليهودي بسبب خطاياه لم يعد له فرح (يؤ5:1). وهذا ما نراه هنا في أن الخمر نفذت ، والمسيح حين حول الماء إلى خمر فهذا يشير إلى أنه أتى ليعيد البهجة والفرح لمن فقدها. ونلاحظ أن الماء بالأجران الستة التي تسع كل منها ما بين 46 – 69 لترا   كانت للتطهير حسب عادة اليهود الذين كانوا يتطهرون قبل الأكل بغسل أيديهم وأحيانا بغسل أيديهم وأرجلهم ، ولكنها كانت فارغة ، فالأجران الفارغة تشير لعدم إمكانية الناموس أن يطهر أو يعطي فرحا حقيقيا. والمسيح قال املاوا الأجران إلى نهايتها وهذا يشير أنه لكي نفرح ببهجة الخلاص التي يعطيها المسيح ، علينا أن نتطهر فيسكب المسيح نعمته فينا ويملاءنا فرحا . ونرى أن العذراء كأم حنون شعرت بأنه ليس لديهم خمر وأرادت أن تزيل الإحراج عن أهل العريس فتشفعت لدي ابنها وكانت واثقة أن المسيح لن يرفض طلبها ، لذلك قالت للخدام " مهما قال لكم فافعلوه " وهي مازالت تشعر بكل من هو ليس فرحا وتتشفع له حتى يدخل المسيح حياته فيفرح . الخمر تعبير عن سر الشركة مع المسيح. فالمسيح في العشاء الأخير حول الخمر إلى دمه ، وبدون شركة مع المسيح معناه غياب المسيح عن حياتنا وعدم وجود أفراح في حياتنا . هذه المعجزة تشير للاهوت المسيح له المجد ، فهو حول مادة الماء إلى مادة الخمر بعناصر كيماوية جديدة . ولما رأى تلاميذه الستة ما فعل ، آمنوا به إذ رأوا مجده وقوة لاهوته. وكما عرف تلميذي عمواس المسيح وقت كسر الخبز، عرفه تلاميذه الستة حينما حول الماء إلى خمر. وكانت القديسة العذراء مريم تحفظ كل ذلك متفكرة به في قلبها .


   إن المسيح في إنجيل يوحنا الإصحاح السادس بارك 5 أرغفة شعير وسمكتين ليشبع خمسة آلاف من الرجال ما عدا النساء والأطفال الجائعين ، كما حول الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل ليفرح الناس. وفي هذا إشارة إلى الخبز والخمر اللذين كانا سبب بركة لكل العالم حين حولهما إلى جسده ودمه الأقدسين في تأسيس  سر الافخارستيا ليكونا سبب بركة وحياة وشبع وثبات فيه وفرح للعالم كله .  ونلاحظ أنه كما يفرح المؤمنون بالمسيح ، يفرح المسيح بهم. وفرح الكنيسة بالعريس عبر عنه يوئيل النبي (يؤ24:2 ). وفرح المسيح بكنيسته كما جاء باشعياء النبي(إش5:62). وبنو الملكوت حين يشربون من خمر بهجة الخلاص سيدركون أنه خمر جيد وأنه غير خمر أفراح العالم التي شربوها من قبل، فهم سيدركون سر الحياة التي أخذوها في التناول من سر الافخارستيا. وسيدركون أن أفراح العالم زائلة وسعادتها مؤقتة، تشبه الخمر الرديئة  (أف5: 18).

   إن هذه المعجزة تشير بأن إرادة الله أن نفرح " أراكم فتفرح قلوبكم" (يو22:16). والله خلق آدم وحواء ووضعهم في جنة عدن وهذا ما قاله معلمنا بولس الرسول " افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضًا افرحوا" (في4:4). والمسيح أتى لأجل هذا، ليعيد لنا الفرح الذي فقدناه بالطرد من جنة عدن . 

   لقد قدس المسيح الزواج بحضوره عرس قانا الجليل، وصنع المعجزة حتى لا يحدث حرج للعريس وعائلته. فالمسيح يشاركنا أفراحنا وضيقاتنا وآلامنا، يقدس حياتنا ويعزينا في آلامنا. فهذا العرس كان يحضره يسوع وأمه وتلاميذه الستة. والمسيح يشاركنا أفراحنا على أن تكون أفراح مقدسة. والمسيحية هي انفتاح على العالم، نشارك الناس أفراحهم وضيقاتهم بمحبة صادقة." فرحا مع الفرحين وبكاء مع الباكين "(رو15:12) والمسيح بالرغم من زهده حول الماء إلى خمر حتى لا يكون هناك أي احراج للعريس. لذلك علينا أن نثق أنه يدبر كل أمورنا وعلينا أن نسلمه حياتنا ليقودنا في موكب نصرته.

   اليوم الثالث الذي ذكر في هذه المعجزة (يو1:2)، رقم 3 في المسيحية يشير ويرمز للقيامة، فالمسيح استعلن ذاته كعريس تفرح بقيامته عروسه الكنيسة ، فالقيامة هي سر فرحنا ، لأنها قيامة من موت الخطية بقوة لاهوت المسيح.

   ليس لهم خمر، عدم وجود الخمر كان مشكلة كبيرة لأصحاب الفرح قطعا ، فالخمر قديما كان رمز للفرح ، وكأن العذراء مريم تشكو للمسيح حال البشرية الحزينة الساقطة ، ولم تحدد العذراء للمسيح كيف يتصرف ، هي وضعت أمامه المشكلة وتركته يتصرف كما يريد ، فهي تؤمن بأن عنده الحل لكل مشكلة، وهكذا صنعتا أختا لعازر، عندما أرسلتا ليسوع قائلتين هوذا لعازر الذي تحبه مريض ، ولم يطلبا شيئًا ونحن ينبغي علينا عندما نصلي أن نضع الأمر أمام الله وكلنا ثقة في أنه سوف يستجيب إذا كان هذا الأمر حسب مشيئته . كان دور القديسة العذراء مريم شفاعي ، فهي تطلب المستحيل وكلها ثقة ويقين أنه لن يرفض طلبها ، وأنه سوف يعطيها سؤل قلبها.  وكان لا بد للخمر أن تنفذ، ففي وجود المسيح لا يجب أن توجد خمر رديئة ، والعذراء تدعو ابنها ليصحح الوضع ويعلن عن حضوره. فرغت الخمر، معناه لا يوجد فرح ، لذلك صنع المسيح هذه المعجزة ليعطي الفرح لكل الموجودين .  

قول ربنا يسوع المسيح لأمه " يا امرأة " كان دليل على الاحترام والوقار في ذلك الزمان لأن الذي أوصانا بإكرام الوالدين لن يحتقر أمه . والسيد قالها ثانية وهو على الصليب .  وقوله  ما لي ولكِ لم تأت  ساعتي بعد ، معناها أنني انفذ مشيئة وإرادة الآب فقط.

     آدم أطلق لقب امرأة على حواء وهي مازالت عذراء. وأطلق الله على العذراء مريم لقب امرأة حينما قال أن نسل المرأة أي المسيح سيسحق رأس الحية (تك3 : 16) . وكما صارت حواء أماً لكل حي صارت العذراء أماً للكنيسة جسد المسيح. وكما صار المسيح آدم الأخير (1كو15 : 45) صارت العذراء مريم حواء الأخيرة ، أو الامرأة الجديدة أم كل جسد حى بحياة المسيح. حواء كانت أماً للخليقة القديمة التي هي نسل آدم وحواء. وهذه الخليقة محكوم عليها بالموت. والعذراء صارت أماً للخليقة الجديدة جسد المسيح وهي الكنيسة. والكنيسة كائنة وحية بحياة المسيح "لأن الله إله أحياء وليس إله أموات ". ونرى بداية أمومة العذراء للكنيسة في شخص يوحنا الذي قال له المسيح وهو على الصليب "هذه أمك" ، وقال للعذراء مريم أمه "يا امرأة هوذا ابنك" (يو19 : 26 ، 27) .

   ضمن المعجزات الخارقة للقواعد الطبية وقوانين الطبيعة التي صنعها الرب أثناء كرازته وتثبت لاهوته كخالق هو شفاء الأمراض بواسطة التفل. فقد صنع ثلاث معجزات  بهذه الطريقة ، الأولي عندما " تفل علي الأرض وصنع من التفل طينا وطلي بالطين عيني المولود أعمي منذ ولادته . وقال له اذهب اغتسل في بركة سلوام الذي تفسيره مرسل. فمضي واغتسل وأتي يصيرا " (يو6:9-7) . والثانية كانت  في بيت صيدا . " فقدموا إليه أعمي وطلبوا إليه أن يلمسه . فأخذ بيد الأعمي وأخرجه إلي خارج القرية وتفل في عينيه ووضع يديه عليه وسأله هل أبصر شيئا . فتطلع وقال أبصر الناس كأشجار يمشون ،( لقلة إيمانه ) . ثم وضع يديه أيضا علي عينيه وجعله يتطلع فعاد صحيحا وأبصر كل إنسان جليا . فأرسله إلي بيته قائلا لا تدخل القرية ولا تقل لأحد في القرية " ( مر 22:8-26) . والثالثة كانت عند بحر الجليل في وسط حدود المدن العشر. وجاءوا إليه بأصم أعقد وطلبوا إليه أن يضع يده عليه . فأخذه علي ناحية ووضع أصابعه في أذنيه وتفل ولمس لسانه. ورفع نظره نحو السماء وأنً وقال له افثا أي انفتح . وللوقت انفتحت أذناه وانحل رباط لسانه وتكلم مستقيما . فأوصاهم أن لا يقولا لأحد . ولكن علي قدر ما أوصاهم كانوا ينادون أكثر كثيرا . وبهتوا إلي الغاية قائلين إنه عمل كل شيء حسنا. جعل الصم يسمعون والخرس يتكلمون ."(مر31:7-37). علما بأن الرب شفي عميان كثيرين بأن وضع يديه عليهم .

   والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو لماذا كان السيد المسيح يتفل ليشفي الناس؟ مع العلم بأن اليهود  يشمئزون ويتأففون من كل شيء ويعتبرون لعاب الإنسان غير طاهر.

    والإجابة علي هذا السؤال هي أن السيد المسيح أراد أن ‘يذّكر ويوجه أنظار اليهود إلي التقاليد اليهودية القديمة وتعاليم حكمائهم الأوائل المتوارثة .

    فقد كان تعدد الزوجات في العائلات اليهودية منتشر، ولكل زوجة منهن أولاد، وربما يكون هناك أولاد خارج حدود الزواج الشرعي . فمن كل هؤلاء الأولاد من له حق الميراث الشرعي ؟.  فقد حدث مع أبونا إبراهيم أنه كان له إسحق من سارة ، واسماعيل من هاجر جارية سارة ، وله ستة أولاد من قطورة . فمن حكمة أبونا إبراهيم أن صرف أولاده من هاجر وقطورة بعد أن أعطاهم بعض الأنصبة حتي لا تحدث مشاكل من بعده ، ويكون الميراث كله لابنه الشرعي المحبوب إسحق ابن المحبوبة سارة (تك1:25-6). وعادة كانت تحدث مشاكل ونزاعات كثيرة بين الإخوة بعد وفات والدهم عن من منهم هو الابن الشرعي لأبيه ، وخصوصا أن الإبن الشرعي له حق ضعف نصيب أي ابن آخر .

   وقد كان التقليد اليهودي المتوارث لإعلان حق الميراث في مثل هذه المنازعات الذي تسلموه من أباءهم وحكمائهم الأولين ، أن لعاب الابن  الشرعي لأبيه له قدرة إعجازية علي شفاء الأمراض والجروح حين يلمس هذا اللعاب العضو المصاب لمريض .

   وكان اليهود في أيام السيد المسيح ، منهم من صدق بشارته وآمن به ،وكان منهم من لم يصدقه فلم يؤمن به . كما كان هناك بعض التساؤلات عن نسب المسيح (يو27:7 ،42) ، وكانوا يسألونه "أين هو أبوك" (يو19:8) ، فاليهود كانوا يهتمون جدا بالأنساب وكان كل بيت يحتفظ بسلسلة نسبه كما هو موضح بسلسلتي نسب المسيح نفسه في (مت1 ، لو3) . وكان هناك من اليهود من يعرف أن القديسة العذراء مريم لم تتزوج القديس يوسف النجار . وهذا قد أثار هذه التساؤلات . مع العلم بأن الرب يسوع أعلن مرارا أن أبوه سماوي (يو18:5-47 ،28:7-29) ولم يتكلم أبدا عن أب أرضي له ( مت46:12-50).

   لذلك استخدم الرب يسوع لعابه ليشفي الأمراض ، لكي يعلن لليهود بناء علي تقاليدهم اليهودية الموروثة وتعاليم حكمائهم الأولين المتوارثة أنه هو الابن البكر الشرعي والوحيد لله الآب .

   فإذا كان السيد المسيح هو الابن البكر الشرعي الوحيد لأبيه فما هو ميراثه ؟ ؟   إن ميراث السيد المسيح هو أن له كل ما لله الآب من سلطان كقوله " كل ما لي فهو لك . وما لك فهو لي " (يو10:17) . وبهذا أثبت السيد المسيح لليهود المشككين أنه الابن الوحيد البكر الشرعي للآب السماوي . فهو الفادي والمخلص والخالق وغافر الذنوب وماحي الخطايا وديان الجميع وواهب الحياة الأبدية مثل الله الآب تماما .

   وقد كانت السيدة العذراء مريم تري هذه المعجزات ومعها تلاميذ الرب يسوع الاثني عشر وكل النسوة الذين تبعنه من الجليل وكل جموع اليهود من كتبة وفريسيين وصدوقيين وغيرهم فآمن بعض من لمسته النعمة . وكانت السيدة العذراء مريم تحفظ كل هذا متفكرة به في قلبها ، وكانت هي الوحيدة بين كل هؤلاء التي تعلم أنه بالحقيقة هو ابن الله. وكانت  تمجد وتسبح الله الآب في صمت .  





بصر شيئا











الـبـــاب الـثـــامـــن

الـعـــذراء مـريـــم تـرافـــق

المـســـيح حـتي الـصـلـيـــب


   سجل لنا معلمنا القديس متي في بشارته " من ذلك الوقت ابتدأ يسوع ‘يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلي أورشليم ويتألم كثيرا  من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم " (مت 21:16) .   هذه الآية تظهر لاهوت السيد المسيح ، لأنه عالم بما سيحدث له ، ولذلك قال  " لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضا .ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي .لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضا . هذه الوصية قبلتها من أبي " (يو  17:10 – 18).

لقد كانت والدته السيدة العذراء مريم ضمن تلاميذه الاثني عشر ومحبيه وأتباعه الذين كانوا يرافقونه في خلال الثلاث سنوات ونصف من كرازته ، وعندما سمعت هذة الكلمات لم يكن يخطر ببالها أن ذلك سوف يتم قريبا لأنها كانت بناء علي بشارة الملاك لها الذي قال لها " وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع . هذا يكون عظيما وابن العلي يدعي ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه. ويملك علي بيت يعقوب إلي الأبد ولا يكون لملكه نهاية ." (لو31:1-33) . فقد ملك بالصليب علي قلوب المؤمنين به لذلك قال " إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني ." (مت24:16) .

لقد كان تلاميذه يلاحظون حقد وكراهية الفريسيين ورؤساء الكهنة والكتبة للسيد المسيح حتي أنهم حاولوا أن يقتلوه مرارا كثيرة ، كما أن أهل مدينه الناصرة "قاموا وأخرجوه خارج المدينة وجاءوا به إلي حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه حتي يطرحوه إلي أسفل . أما هو فجاز في وسطهم ومضي " (لو29:4-30) ، ولم يستطع الموت أن يقترب منه .لأن ساعته لم تكن قد أتت وكان قلب السيدة العذراء في حزن شديد عند سماعها أن حياته مهددة بالخطر ، متذكرة قول سمعان الشيخ ... "يجوز في نفسك سيف" ولكنها كانت واثقة أن ما بشرها به الملاك جبرائيل هو صدق وحق. ولم يكن تلاميذه يفهمون ما قاله الرب يسوع من أنه سوف يتألم كثيرا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم ، حتي أن بطرس " ابتدأ ينتهره وقال له حاشاك يا رب. لا يكون لك هذا " (مت22:16) . كانت القديسة العذراء مريم كأم تفكر بطريقة مختلفة ، حتي قبل ميلاد رب المجد يسوع ، لأنها  قطعا قد علمت بالروح القدس الحال عليها أن الطفل القدوس الذي سيولد منها هو أبن الله وقطعا قد عاينت العديد من معجزات الحماية الإلهية الفورية ابتداء من النجاة من مذبحة أطفال بيت لحم مرورا بهروب العائلة المقدسة إلي أرض مصر.   كانت القديسة العذراء مريم تشعر بمرارة في نفسها لأن ابنها الذي قيل لها أنه ابن الله ، اعتبره الكتبة والفريسيون ورؤساء الكهنة أنه مجرم أثيم ، وغير مستحق لأن يعيش علي هذه الأرض!!! مع أنه أعطي حياة للموتي وأقامهم الشعب حبا وعطفا طوال هذه السنوات الثلاث والنصف، وأنه " جال يصنع خيرا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه " (أع38:10). " وله يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا " (أع43:10) . ومما زاد من آلام القديسة العذراء مريم أن تري وهي وحيدة لا قوة لها ولا عزيمة أنه أثناء المحاكمات الدينية أمام حنان وقيافا في مجمع السنهدريم وكذلك المحاكمات المدنية فإن كل الرجال الذين كانوا مدينين له بحياتهم والذين شاهدوا معجزاته وآياته وأكلوا معه وشربوا ، كلهم تفرقوا ، ولم يجرؤ أحد منهم أن يعطي شهادة حق عنه ولو لمحاولة إنقاذ حياته . فقد نبذه وابتعد عنه الجميع خوفا من رؤساء الكهنة اليهود ، حتي الشعب تبرأ منه وهو البار القدوس وقالوا لبيلاطس أصلبه أصلبه . لمزيد من المعلومات تصفح كتابنا " درب آلام ربي " الباب الرابع المحاكمات الغير عادلة ، كذلك الباب الخامس وهو " درب الصليب" والباب السادس وهو "أحداث الصلب علي هضبة الجلجثة "  .

 وبدأ موكب الصلب يسير من دار الولاية إلي هضبة الجلجثة ، وكانت الجماهير الغفيرة تتسابق في إلقاء نظرة علي يسوع نبي الناصرة الذي كان كارزا بينهم بملكوت الله وأشبع بطونهم وشفي مرضاهم وأخرج منهم الشياطين ، جعل العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتي يقومون والمساكين يبشرون . ومن ضمن هذه الجموع الغفيرة كانت القديسة العذراء مريم التي كانت تسرع خطاها نحو الموكب بصحبة يوحنا الحبيب ، وكانت الجموع الغفيرة تتزاحم ولم تعطي الفرصة للقديسة مريم العذراء الأم الحنون لكي تختلس نظرة سريعة علي فلذة كبدها ربنا يسوع المسيح ، وفي لحظة حانت الفرصة فالتفت يسوع إلي أمه الحزينه المتألمة التي يجوز في نفسها سيف الألم والحسرة علي وحيدها  كقول سمعان الشيخ لها ، فقد كانت التفاتة مملؤة ومدججة بالحب والحنان والشفقة ، ففي وسط آلامه يشفق علي قلب أمه المكسور من شدة الحزن والحسرة والأسي ، ولكنها كانت تحمل في طياتها إعطاء الطمأنينة والرجاء والإيمان بأن كل الأمور في سيطرة الله الآب الضابط الكل ليطمئن أمه الثكلي ، لأن هذه المسيرة ليست هي نهاية المشوار ، لأنه هو في طريق إعلان ‘ملكه وإنشاء مملكته بالحب والسلام علي خشبة الصليب فوق الجلجثة ، كقول اشعياء النبي " لأنه يولد لنا ولد ونعطي ابنا وتكون الرياسة علي كتفه ويدعي اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا أبا أبديا رئيس السلام . لنمو رياسته وللسلام لا نهاية علي كرسي داود وعلي مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن وإلي الأبد . غيرة رب الجنود تصنع هذا" (إش6:9-7) . وتعالت الأصوات وكان من بينها نحيب المحبة الخالصة فقد ظهر في المشهد شابة من اورشليم اسمها "فيرونيكا" لم تحتمل رؤية الرب بهذا المنظر فتقدمت بكل شجاعة وحب خالص نحو المسيح ووضعت منديلا أبيض علي وجهه لتجفف عرقه ودمائه فشكرها ومر وعبر ، وعلي هذا المنديل طبع وجه من هو أبرع جمالا من بني البشر بركة لجميع الأجيال . من النسوة الكثيرات الذين تبعنه من الجليل ، كان من بينهم مريم المجدلية التي أخرج منها سبعة شياطين ويونا زوجة خوزي وكيل هيرودس الملك ومريم أم يعقوب ويوسي وام ابني زبدي والقديسة العذراء مريم ويوجنا الحبيب يبكين نبي الناصرة حتي وصل الموكب إلي مكان الصلب بهضبة الجلجثة . لم يكن اليهود  يعلمون أن هذه هي خطة الله الأزلية لفداء وخلاص البشرية الساقطة. لقد قام المسيح في اليوم الثالث بسلطان لاهوته وداس الموت بالموت وسحق رأس الحية كما هو مكتوب "نسل المرأة يسحق رأس الحية" (تك 15:3).









مديح للقديسة مريم العذراء



طـوبـــاك يـا مــريـــم طـوبـــاك           الآن وعـــلـــــي الـــــــــدوام           

أهـــــــدي الـــســـــلام إلــــــي            والــــــدة رب الانـــــــــــــام

أهـــــدي الـــســـلام  إلــــــي             عـــــلاجـــي من الأسقـــــام

جبرائيل وافــاها لـهـا أعـطاهـــا           الســـلام وبـبـشـــري نـاداهـــا

يـــا مـــريـــــم ستـحـبـلـيـــــــن            وتلديــن محـب البشـر الأميــن

ما هـذا الكــلام ماذا تقـــــــول            كـيــــف أحـبـــل وأنـا بـتـــول

الـروح القـدس يحـل عليــــك            وقـــــوة العـلــــي تظـلـلــــــك

فلـذلـــك الـقـدوس الـمـولــود             مـنـك يـدعــــي ابـــن الـلــــــه

وهـوذا إلـيـصابـات نسيبتــك             حبـلي بـابـن فــي شيخوختها                   وهذا هـو الشهـر الـســادس            لــتـلـــك الـمــدعـــوة عــقــــرا

فـقـالت مريـم هـوذا أنـا أمــة           الــرب لـيـكـن لــــــي كـقـولـــك